الوشم
بقلم: ناصر محمد
ناصر (سوريا)
يا من تفترشون
الأرض و تلتحفون السماء، يا من تأكلون التراب و الحصى و تشربون الدموع، يا من
تهيمون على وجوهكم في البراري و القفار، يا من تتحَدُّون البحر و تصارعون أمواجه
العالية، استمعوا للنشيد المتدفّق من بين أصابعي.
البيانو الذي
أستخدمه قديم جدا، تآكلت حوافّه منذ زمن بعيد لكنه يفي بالغرض، قوائمه مصنوعة من
خشب الصّندل و مفاتيحه من العاج الأصلي، اشتراه والدي من امرأة عجوز، ما زلت
أذكرها، جميلة و أنيقة، كنت أمسك بيده عندما التقيناها في شارع الصالحية بدمشق قرب
مبنى البرلمان، دعتنا إلى بيتها، يبدو أنه يعرفها معرفة جيدة فقد ابتسمت عندما
رأتنا من بعيد، العطر الذي تضعه كان مميّزا، بقيت لسنين و سنين طويلة أشمّ رائحته
كلما عبرت الصّالحية في طريقي إلى سينما السفراء، سألتني و نحن ندخل بيتها عن اسمي
ثم مسحت على رأسي و قبلتني، مات زوجها منذ عدة أشهر، هكذا قالت لأبي و تنهّدت،
باعت كل ما تركه من كتب و لوحات فنيّة و تحف، احتفظت فقط بثيابه و غليون تبغه
الخشبيّ الثمين - كان من أمهر عازفي البيانو في العاصمة - قال أبي ذلك ثم التزم
الصمت و راح يتأمّل الستائر و باقات الزّهور، علمتُ فيما بعد أنها سافرت إلى
السويد و استقرت هناك.
أرفع قبّعتي ثم
أنحني أمامكم بتواضع جم، التصفيق الحارّ يهزّ وجداني و يبعث الحماسة في نفسي.
تتسمّر زوجتي
عندما تخرج من المطبخ فجأة، تتفرّس مذهولة في وجهي، تتابع باهتمام حركة رأسي و أصابعي
لمعرفة ماذا أفعل، تقول و هي تهرول ناحيتي: متى تفيق من جنونك؟، أتابع العزف دون
ان ألتفت إليها، تقفز إلى الطاولة التي أقف قبالتها، تخطف الصورة الكبيرة التي
فوقها ثم تقوم بتمزيقها، أسمع أنينا مؤلما يصدر من جوف الورق المقوّى و هو يتحول
بين أصابعها إلى فتات، ترمي ما بيدها في سلّة المهملات، أركض... أنظر... تتحوّل
السلة إلى بئر عميق و الصالة صحراء لا حدود لها، أسمع من قاعه أصوات استغاثاتكم،
أحاول أن أفعل شيئا، أخرج إلى الحديقة، أبحث في المستودع عن حبل طويل، تنظرون إلي
بِأعين ملؤها التوسل و الرجاء، تمدّون ضارعين أيديكم و أبصاركم إلى الأعلى، تتلامس
أطراف أصابعنا قليلا، أحاول جذبكم، نقترب كثيرا من بعضنا، أشم عبير أجسادكم و
رائحة ثيابكم المعفرة بالتراب ثم نبتتعد.
تطفئ زوجتي
أنوار الصالة و الغرف، تناديني من فوق السرير، العطر الذي تضعه هذا المساء يفتح
شهيتي للجنس، نتبادل القبلات بنهم شديد، تقهقه، أحاول اسكاتها - قد يسمعنا الجمهور
الذي في الصالة - تقول و هي تجذبني إليها بقوة: اطمئن... هم الآن نيام... تعال
إلي، نمارس الحب كما لم نمارسه منذ سنين، أحب سريري العريض و أغطيته النّاعمة
الملساء و وسادتي، أحب مقابض الأبواب في بيتي.
أعود في الصباح
لأبحث عنكم، أتسلل على رؤوس أصابعي، لا تزالون نياما في قعر السلة، أيتها الكتاكيت
الصغيرة المتلاصقة امنحيني الدفء و الحنان، أدخل رأسي مرة أخرى في فوهة البئر
محاولا انتشالكم، تركل زوجتي السلة عندما تراني، تتدحرجون كالدمى و تتفرقون في
الجهات الأربع، تحت المقاعد، في الزوايا البعيدة، تحت الأسرة و الطاولات، خلف
الستائر، في شقوق النّوافذ و الأبواب، في خزائن الثّياب و الأدراج، في صنابير
المباه و علب الكهرباء، أجمعكم قطعة قطعة، ألمّ شعثكم، أحملكم برفق فوق كفّي،
أحميكم كي لا تراكم زوجتي بقبعتي ثم أضعكم في جيبي، أهمس لكم مطمئنّا، تبتسمون،
حركاتي الغريبة و يديّ الممدودة دائما إلى جيبي تثير اهتمام الكثيرين و ريبتهم.
في زقاق جانبيّ
ضيّق و بعيدا عن أعين المتطفّلين أخرجكم من جيبي، أضعكم تحت ثياتي، أصابعكم
الصغيرة تدغدغ بطني، أتمايل يمنة و يسرة، أرقص أثناء سيري مثل شجرة صغيرة تهزها
الرياح بقوّة، أضحك في الشارع، المارة ينظرون إلي،ّ يتفحصون شعري الطويل و ثيابي
الغريبة يهزون رؤوسهم ثم يتابعون سيرهم، تمتص بشرتي صوركم و ابتساماتكم، تتسرّبون
إلى كبدي عبر مسامات جلدي، تتحوّلون عندما يسقط اسمي - ذات صيف - إلى وشم يغطّي
مساحة جسدي كله.