مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

طفولةٌ و قمر بقلم: غزوان بزي (سوريا)

طفولةٌ و قمر
بقلم: غزوان بزي (سوريا)
الجوُّ رائقٌ، يتقطّر هدوءاً و صمتاً، بعض الغيمات بقيت في مكانها، لم تغادر قبة السماء، قررت أن تشارك القمر وحدته و انفراده؛ عساها تخفف عنه الضجر، و تكسر قيود روحه المأسورة.
أما هو؛ فأدار وجهه نحوها باستحياء، أطلق باتجاهها سهام نوره و جلاله، جعلها كالحلم؛ فما كان منها إلا أن فتحت قلبها لأشعته المنسابة الرقيقة، التي كانت بيد فنّانٍ، تنسّق و ترتّب بلطفٍ جمالَ الغيم، و المدهش أن إحداها تجرأت و اقتربت منه أكثر مطوِّقةً إيّاه بذراعيها، احتضنته؛ شعر بالدفء و الأنس، بدا ذلك جلياً في ابتسامته و تدفُّقِ نوره نحو الأرض و السماء، و كأن الغيمة وشاح من القطن الأبيض الموشّى باللّآلئ و الياقوت.
استأثرت به وحدها؛ فقبّلها، وأطلقها في بلاطه أكثر إدهاشاً و جمالاً من رفيقاتها، فما تحسبُها إلا ملاكاً يستلقي بجانب القمر.
بينما سارعت النجوم و تجهزت، و بدأت ترقص حوله و تدور ملتمعة بحليّها، لتلفت نظره بجمال رقصاتها الرشيقة الناعمة، عساه يخرج من كآبته و عزلته، و ينسى وحدته و ضيقَه، انتبه لها؛ فلّوح لها و أطلق يديه إلى أقرب نجمة، و بدأ يرقص معها و يغازلها بنظراته الساحرة التي جعلتها تذوب بين يديه، فراحت تتقطر كالنور، فإذا ما وصلت الأرض تكوّرت و تدحّرجت عليها ككرات الذهب.
التي انسكبت بدورها على وجه عبد القادر، الذي جلس لتّوه على الكرسي، ليرتاح قليلاً بعد عناء يوم طويل في الورشة، أرخى ظهره على مسند الكرسي، و رفع عينيه المتعبتين الناعستين باتجاه صفحة السماء، فرأى القمر و النجوم و الغيم المتناثر تسترق النظر إليه، أحس بالخجل و الحياء منها، فأشاح النظر عنها نحو الأرض.
مدّ يده إلى كأس الشاي، قرّبه من فمه، رشف منه رشفة قصيرة، فسرت في جسده برودة و قشعريرة، كأنه وضع قطعة جليد في فمه، فأعاده إلى مكانه و تجاهله تماماً، كان صبيُّه أحمدُ يلتقط العُدّة المتناثرة في أطراف الورشة ، ليعيدها إلى مكانها المخصص...
كان مظهره مؤلماً، فلقد غطّى الشّحُم و الزيتُ ثيابَه و وجهَه، تحسبه قد سقط في برميل من الزيتَ، حتى شعره تشرّب الزيت، و أحد طرفي حذائه قد فتحت فمها؛ فراحت أصابع قدمه العارية تتغذى على الزيت و الشحم.
أحسّ عبد القادر بأنه يراه لأول مرة، رغم أن أحمد أمضى ثلاث سنوات في الورشة، فغلبت الرحمة و الشفقة على قلبه، و تجلّت في نظرته تلك، فأحمد ما زال صغيراً لم يكمل الثانية عشرة من عمره، يعمل كل يوم من الثامنة صباحاً و حتى الثامنة مساءً، يعود إلى بيته بأرجل متعبة و عيون ناعسة، يرتمي على فراشه كالميت، فيغادره الحلم، و تنساه العائلة...
عندها فقط غام عبد القادر وراء سحابة من الذكرى القريبة البعيدة المؤلمة، كان وقتها في سن أحمد تقريباً، عندما سمع أباه و أمه ليلاً يتهامسان و يتفقان على قرار تركه المدرسة، و زجّه في مصلحة تنفعه حينما يكبر، فوقع اختيارهم على المعلم أبو أكرم الميكانيكي المعروف في المنطقة الصناعية.
صُعق يومها عبد القادر، و كأن زلزالاً ضرب رأسه، و هشّم جمجمته الصغيرة، و عصر قلبه كالبرتقالة...
ماذا سيفعل؟
يبدو أنهم قد عزموا أمرهم، و قرّروا إعدامه في المنطقة الصناعية، إنه ليس كسولاً في المدرسة و درجاته مقبولة بل جيدة...
في تلك الليلة لم ينمْ عبد القادر، فكّر بأشياءَ كثيرةٍ، لكنّ عقلهَ لم ينضج بعد لإيجاد أي مخرج، سوى أن يختبئ تحت الغطاء حتى الصباح، عندما سمع صوت والده ينادي عليه:
عبد القادر... عبد القادر، انهض، ستذهب معي إلى المنطقة الصناعية، إلى ورشة أبو أكرم.
نهض من فراشه مثقلاً بالهم و الحزن، ارتدى ملابسه واجماً دون أن يتفوَّه بكلمة، عند باب البيت أطبق والده على يده الصغيرة ذات الملمس الناعم و سحبه، كما لو أنه يسحب خاروفاً إلى حتفه.
في الطريق رأى رفاقه يحملون حقائبهم متوجّهين إلى المدرسة، نظروا إليه و لوحوا له، لكنه كان منقاداً إلى طريق آخر؛ فبدأت الغصّة تزداد في حلقه و قبل أن تخنقه، أطلق لسانه قائلاً:
_ إلى أين يا والدي؟ سأتأخّر عن المدرسة!؟ اليوم عندي درس حساب و لغة عربية و رسم، لقد كتبت وظائفي البارحة، كانت كلماته تخرج مرتجفة، تسكنها الغصة و يعتريها الخوف.
والده بقي صامتاً، و كأنه صمّ أذنيه عن سماع أيّ صوت، سوى صوته الذي كان يُطرب له كثيراً، فسلّم له و أطلق له القياد.
وصلا أخيراً إلى ورشة أبو أكرم و يده ما زالت في يد والده تحبسها كرهينة...
_ صباح الخير، كيف حالك يا أبو أكرم؟
_ الحمد لله، بخير و بركة، هل هذا هو الأستاذ عبد القادر الذي حدثتني عنه؟
_ نعم، هو بشحمه و لحمه، لا أريد أن أوصيك، اللحم لك و العظم لنا، و دفعه والده إلى داخل الورشة، كأنه يرمي كيس قمامة، فسقط على الأرض فوق الزيت و الشحم العالق على الأرض منذ سنين، فاتسخت ثيابه، و تلطخ وجهه بالزيت و الشحم، فما كان من المعلم أبو أكرم ـ المنتفخ البطن، المكتنز الوجه ـ إلا أن أنفجر بالضحك، حتى أنه كاد يسقط على قفاه من شدة الضحك...
و من يومها أصبح عبد القادر أجيراً عنده، بل عبداً لديه بالمجّان، يضربه لأقل تقصير، و يوبخه لأنه أحياناً يسرق بعض الدقائق، لينام تحت إحدى السيارات في الورشة من شدة تعبه، كان أبو أكرم يريده آلة تمشي و تعمل دون توقف...
و مرة ناداه فلم يسمعه بسبب الصوت القوي لإحدى الماكينات؛ فعربد و بسر في وجهه، و أخرج من فمه نهراً من الزبد، و تلوّن وجهه بألف لون و لون، ثم ما كان منه إلا أن حمله من كتفيه إلى أعلى، راح يهزه بشدة، و يصرخ في وجهه، ليتركه بعدها يسقط على الأرض فاقداً الوعي، لو رأيته ساعتها لجزعت له، و لتمنيت أن تقتص من جلاده.
يومها بكى و تألم، أحس بأن قدميه قد كسرتا، حاول أن يصرخ، لكن صوته كان مخنوقاً تكسوه الغصة، و من سيسمعه و ينقذه من بين يدي أبو أكرم الظالم، و خاصة أن والده أطلق العنان لأي عقوبة يرتئيها أبو أكرم له.
فرضي حياة السجين الذي لا يملك إلا القبول و التعايش، حتى يُطلق سراحه و لربما مات في سجنه متعفناً، قبل أن يرى بصره النور...
مرة رأته أمه يمزق كتبه و دفاتره، كان يريد أن يلغي و يحطم أي فكرة أو هاجس يراوده بالعودة إلى المدرسة التي أصبح يكرهها الآن، بعد أن أحبها و رجا منها مستقبله، لكنها تخلت عنه و تركته وحيداً لقدره، الذي لم يختره أو يحبه يوماً.
و كم ترجى و طلب من والده أن يعيده إلى المدرسة، لأنه يحب دروس الحساب و العلوم و الأناشيد و الصور الملونة و العصافير في كتاب القراءة، و أنه يحب البقاء مع رفاقه فلقد اشتاق إلى معلمته التي أحبها و أحبته كثيراً.
توسل إلى والده لإعطائه فرصة أخيرة، سيثبت له بأنه جديرٌ بها و سيدرس ليلاً نهاراً، لكن رفض والده كان يزداد، ليصبح قطعياً غير قابلٍ للنقاش...
شعر يومها بالوحدة و الخوف من هذه الحياة القاسية، بعد أن تخلوا عنه جميعهم، و تركوه للمعلم أبو أكرم يسلخ جلده و روحه بسكينه التي لا ترحم، حتى أمه لم تكن صاحبة قرار أو رأي، كانت أضعف من أن تفتح أي حوار مع والده لأجله، فلقد كان متسلطاً و متفرداً برأيه.
قضى عبد القادر طفولته و شبابه في الورشة، تحمل كل أنواع الظلم، لم يكن له أدنى حق بالشكوى أو الاعتراض أو الرفض، كل ذلك كان ممنوعاً، بل محرماً، مع أنه بذل مجهوداً مميزاً في عمله.
توفي المعلم أبو أكرم في حادث سير، و لم يكن له أولاد في سنٍ تأهلهم لإدارة ورشة أبيهم، فما كان من زوجته إلا أن عهِدت بها لعبد القادر، لما عرفت عنه من أمانة و صدق و مهارة في العمل...
أسند عبد القادر ظهره إلى مسند الكرسي مبتعداً بنظره عن صبيه أحمد، و عاد فأطلق عينيه إلى السماء، أراد أن يوقف شريط طفولته، الذي راح يُوجع قلبه و روحه، معيداً الغصة إلى حنجرته من جديد.
كانت الغيمات قد بدأت بالرحيل، ساقتها الريح إلى سريرها بعد أن نعِس جفنها و ذبُل قلبها و بقي القمر في سمائه وحيداً يفتش عن مؤنس أو جليس...
عندها وقف عبد القادر على قدميه و مدّ يديه إلى الأعلى باتجاه القمر، أراد أن يلمسه و يداعب وجهه بأصابعه، أحس بأن القمر يشبهه...
كان صبيه أحمد يراقبه بذهول و لا يعرف ماذا يفعل.