مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

يوم ما يا أمي بقلم: تمام سليمان صالح الحياري (الأردن)

يوم ما يا أمي
بقلم: تمام سليمان صالح الحياري (الأردن)
لا يعي من تلك المرحلة من عمره إلا القليل من الذكريات البائسة، التي كثيرا ما كان يتمنى لو أنها لم تعلق في ذاكرته. تمور في مخيلته صورة الدراجة الهوائية، التي طالما حلم باقتنائها كغيره من أقرانه ينطلق بها في شوارع متهالكة قاتلة، و ذلك هو السبب – في رأي والديّ- في عدم شرائها؛ فقد كانا يتذرعان به كثيرا حرصا منهما على حياتي.
اتخذت من حافة النافذة مقرا لي وقت صلاة الجمعة لأحدق جيدا بأنواع السيارات على اختلاف أحجامها و ألوانها و هي تصطف أمام المسجد، كم كنت أتمنى أن أحلق بواحدة منها؛ فأجد نفسي و قد امتطيت عصا المكنسة، أعدو و أعدو، كأنني أمتطي فرسا جموحا يأخذني بعيدا بعيداً...
ها هي الأيام تمر كلمح البصر، نكبر و تكبر أحلامنا و تتجاوز السيارة و الدراجة، و تكبر معنا همومنا – كما كانت تقول أمي كثيرا: "تكبرون و يكبر همكم"...
حتى العقبات تقف أمامنا متحدية و تتراكم في دروبنا؛ فرغم محاولات الأهل و السعي ليل نهار للتغلب عليها، إلا أن المحاولات تبوء بالفشل و الاستسلام...
لذلك كنت أعيش المراحل الثلاث في يوم واحد؛ تجدني طفلاً أرعنَ، و شابا طموحا، و كهلا  قد أكل الدهر عليه و شرب.
أكثر ما آلمني و هدد أحلامي عندما رأيت أهلي عاجزين عن تعليم أختي المتفوقة، الكل وقف مكتوف الأيدي؛ شعرت حينها أن الدنيا قد اسودّت في وجهي، و أن الأيام تصفعني بقوة و تقول لي: استيقظ حسبك أحلاما و آمالا...
تذكرت درس الأخطاء النحوية الشائعة، عبارة كان يطلب منا المعلم أن نكتشف ما فيها من خطأ و نصوبه:
"لا تبني قصورا في الهواء"؛ ترى ما الخطأ في هذه العبارة؟.
في كتابة الفعل (تبني) بإثبات الياء، و الصواب حذفها؟ أم بحذف الأحلام من حياتنا و الاكتفاء بواقع يصعب تغييره؟!.
هل يحقق أحلامه من كانت تعوزه النقود؟.
لن أنسى ذلك اليوم، عندما اجتمعنا و إخوتي لنسد شيئا من جميل أمنا و تضحيتها، و ندخل قليلا من الفرح إلى قلبها خلسة، و نشاركها فرحتها بعيد ميلادها، الذي أظنها فقدته في زحمة التبعات الملقاة على عاتقها، و تواريخ سداد الفواتير المتراكمة.
أخذنا ندخر بعضا من مصروفنا المتواضع لشراء هدية و كعكة، يومها كادت قدمي تنكسر لأنني قفزت من السور خشية أن تراني و معي الهدية و الكعكة؛ فتنهال عليَّ أسئلتها الموجعة، و يا لهول المفاجأة عندما دخلت علينا، و قد تحلقنا حول الطاولة، كل قد وضع لمسته العفوية البريئة؛ جحظت عيناها، و أخذت الكلمات تخرج من فمها متعثرة منكسرة؛ كأن مصيبة قد وقعت:
- " ما الذي صنعتموه؟ لمََّ لم تخبروني؟! كنت قد وفرت عليكم ثمن الكعكة و صنعتها لكم... أنا لا أريد هدايا، و لا أعرف من الأعياد إلا عيدين..."
ثم تغيرت نبرة صوتها و شعرت بمدى الهزيمة التي منينا بها:
- "أنا لا أريدكم أن تضيقوا على أنفسكم و تقطعوا من مصروفكم الذي لا يكفيكم أنتم لهديتي؛ أنتم أحلامي و أنتم ربيعي و أزهاره التي لا تعرف الذبول،  و تذكروا (اللي بنظر لفوق تنكسر رقبته)".
- أرجوك توقفي يا أمي، أي ضيق هذا؟! دائما تكابرين و تكتمين حرقتك في داخلك، تدوسين جراحك بقدميك، تكتمين أنفاسها كي لا يسمعها غيرك... قد كبرنا يا أمي و أخذنا من عمرك و صحتك الكثير دون مقابل؛ يكفينا يا أمي استسلاما و تخاذلا لم لا ننظر للنجوم؟ كم من أمثال كانت سببا في دمارنا و انهزامنا؟. كبرت يا أمي... و كطفل أضاع أمه في السوق؛ ضيَعت انبهاري بالأشياء وتعلمت – كما قالوا قديما - أن لا أحد يعتلي ظهرك إلا إذا كان منحنيا... و لأنني ما زلت  طفلك – الذي على جبينه نجوم تلمع – لن تكسر تلك النجوم رقبتي،
سأهديك إحداها يوما
يوم ما يا أمي...