بطالة
بقلم: محمود
عبدالله سعيد (مصري مقيم بالكويت)
دخل بلدته بعد
غياب، تحمله خطواته المتثاقلة إلى شارع طفولته و صباه، و ثارت بمخيلته الأحداث،
تتسابق بحلبة ذكرياته، و قبل أن يصل إلى بيته بلحظات، لم يجد جيرانه كعادتهم في
الجلوس على عتبة بيتهم يرمقون المارة بنظراتهم و تطفلهم، و تدخلهم في شؤون غيرهم و
فيما لا يعنيهم، حتى رائحة الشارع تغيرت؛ كانت تفوح رائحة كريهة لا تطاق، من أثر
حرقهم لغائط الكلاب و الثعالب و الأحذية القديمة، و كل ما هو نجس و تشمئز منه
النفوس، و تذكر مشاجراتهم الشبه يومية، و تجمع القريب و البعيد و القاصي و الداني
على الصوت الجهوري للعانستان في بيت جيرانه، و كيف كن يكلن التهم جزافا و اعتباطا
لكل الجيران؛ تارة يتهمن جارهم محمد نصرة بأنه سلب أرض أبيهم بالحيلة و المكر، و
تارة يتهمن جارهم ابن الحلاواني بعمل الأسحار و الأعمال الشيطانية، لتوقيفهن عن
الزواج، و طرد الخطاب؛ قطع شريط ذكرياته، نباح كلبه و تراقصه حوله و قفزه، و وقوفه
على خلفيتيه، و كأنه يريد أن يعانقه؛ سمع أهله نباح الكلب؛ فخرجوا مسرعين، خشية أن
يكون الكلب قد عض أحد المارة؛ تفاجأوا به عند الباب، و استقبله أهله بالعناق
الحار، و بعض قطرات الدموع تنساب على صفحة خد أمه؛ قبلها يديها و رأسها، و سلم علي
من حضر من أطفال البيت، و وزع بينهم حلوى كعادته، و جلس ليعطي قدميه راحة تستحقهما
بعد صراعهما الطويل مع الطريق، و ضيق الحذاء الجديد، و أخذ يسأل عن القريب و
البعيد، و الأفراح و الأحزان، و الجيران؛ فتطرق إلى رأسه الاستغراب من بيت جيرانه،
و قبل أن يسأل بادرته أمه فقالت: كلنا بخير و نعمة، حتى جيراننا بخير، منهم من
سافر، و منهم من التحق بعمل، حتى ابنتا الجيران اللتان فاتهم سوق الزواج، قد
أكرمهن الله بعمل؛ قال: عمل! و قد أتسعتا حدقتا عينيه، و أهطع إليها، و ألقى مرساة
مسامعه لها؛ قالت: نعم عملتا في مصنع تغليف و تعبئة السكر، و أجرهن بالإنتاج، فذهب
عنه الاستغراب الذي أعتراه لهدوء شارعه، و أخذ يردد الحمد لله الذي أراح منهن
الأسماع و الأبصار و الأنوف، بعملهن. أ ه .