بقلم: رندة عوض عوض (فلسطينية تقيم في السعودية)
ميادة امرأة طموحة دائمة الانشغال، جدولها الزمني يسبب تصادم الأفكار
في رأسها، لا تكفيها أربعٌ و عشرون ساعة لإنجاز مهامها اليومية، إضافة إلى
عصاميتها و إتمام أمورها بمفردها، نصحتها صديقاتها باستقدام خادمة كما درجت
العادة، إلا أن رؤيتها ذات الأبعاد الإنسانية؛ ترفض فكرة تشغيل إنسان مهمته
الوحيدة، هي تنظيف و ترتيب الأشياء الشخصية، إنه أمر مذل ما لم يكن الشخص عاجزاً
جسدياً عن فعل ذلك، مع أن بعضهم يستقدم العمالة للتباهي و التشبه بالطبقات
البرجوازية، كمن يقتني فازة كريستالية! و مما زاد الطين بلة غربتها، فلقد أثقلتها
الصحراء و كوتها حرارتها. كثيراً ما حاولت إيجاد تعريف لهذا المصطلح المعقد،
فتوصلت إلى أن الغربة قطعة لبان تغريك بداية حلاوتها، لكن ما إن تلوكها طواحين
أيامك حتى تفقد مذاقها، غير قابلة للبلع أو للهضم.
كان الحل الأكثر منطقية في مثل تلك الظروف، هو الانغماس بالعمل،
مؤهلاتها الدراسية ساعدتها للحصول على وظيفة، أضف إلى ليونتها في التعامل و حسن
مظهرها، مما خفف عنها وطأة غربتها، لكنه زاد عشوائية حياتها في عملها، حيث اعتاد
الموظفون التحلق بأحد المكاتب ليسردوا الأسرار و النكت و القرارات الإدارية قبل
صدورها، بينما هي مشغولة البال بأمور البيت و بطفلتها الصغيرة. تطالع أساورة
الخيطان التي ألبستها إياها ابنتها مبتسمة، و ورقة منقوشة بكلمات حب خطتها
صغيرتها. كثيراً ما تعرضت للسخرية، إلا أنها لا تأبه للأحاديث المتداولة؛ حول سلوكيات
الموظفين بالعمل التي تراها من الأمور السطحية، أما في المنزل فتسترجع أحداث يومها
بالعمل و مواقف زملائها فتضحك أحياناً، هذا التداخل جعلها قليلة التركيز كثيرة
التوتر، بدأت تفقد الصبر، أما خفة ظلها فأكسبتها صديقات و أصدقاء كثر، ينتابها
شعور أنها أتت من فضاء آخر مختلف كل الاختلاف، عما تحياه فكان جهدها مضاعفاً
للحفاظ على شخصيتها في ظل بيئة قاسية وتحدٍ طويل الأمد كمن يمشي عكس التيار، كي لا
ينخرط بأفكار من يحيطونه، إلا أن بعض الأمور لا تسلم من فك المجتمع مهما حاولت،
حتى أضحت ألعن من الأمراض السارية، فلا عقار أو لقاح يحصنها منها، أكثر ما أزعجها
أن جميع المغتربين مضطرون لتسجيل أطفالهم بمدارس خاصة تدرس المناهج باللغة الانجليزية،
و مع الأيام بدأت تشعر بانسلاخ طفلتها و كذلك أطفال أصدقائها عن الثقافة
العربية و هو مقلق جداً، فلم ترغب ابنتها
إلا التحدث بالانجليزية و متابعة البرامج التلفازية؛ و قراءة القصص الأجنبية، حتى
إن أبسط الكلمات المتداولة يومياً بدأت تسقط من قاموسها، سألتها ابنتها على سبيل
المثال ماذا تعني كلمة (نزهة). عندما تتذكر ميادة أن الغربة غلبتها بمثل هذه
الأمور، تبدأ بكيل وابل من الشتائم بصوت مسموع، قد يظن من يسمعها أنها تتشاجر مع
أحدهم، لكم تمنت وجود والديها لتوكل لهما الاهتمام بطفلتها.
غالباً ماتكون أيام الغربة متطابقة إلا ما ندر، في عصر أحد الأيام
اعتاد السائق الهندي أن يردد مع المذياع كلمات أغنية هندية ذات لحن جميل، فيها
الكثير من الضجيج و قرع الطبول، بدا رأسها يهتز كراقصات بوليوود، أُوشكت على
الغناء لولا رائحة واخزة امتصت ما تبقى من الأوكسجين، حتى النغم تحول إلى نغم شاذ لتأثره بما تشم، فتحت النافذة فلفحتها
سخونة الهواء المحملة برطوبة عالية، و كصفعة على غفلة أعقبها صياح السائق بكلمات
عربية مكسرة طالباً إغلاقها، هكذا خُتم المشهد الدرامي المتكرر، لكن على غير
المعتاد رن هاتفها المحمول، صوت زوجها يستشيط غضباً: أين أنتِ؟!
- في طريقي للبيت دقائق و أصل، هل تحتاج شيئاً!
يجاوبها سعال كثيف مخنوق، أبعدت الهاتف و مسحت خدها من الرذاذ
المتطاير. يحدثها قائلاً: عندما تصلين افتحي الباب بهدوء لربما غفوت قليلاً، ثم
أعدي كأساً من الزهورات.
انتهت المكالمة فأحست بثقل يوهن عزيمتها، هذا السعي المستمر منذ أن
تفتح عينيها منهك، حتى أنها في السنوات الأخيرة بدأت تفقد هوايتها الجميلة مقابل
أعمال روتينية .
أدارت المفتاح بهدوء و دخلت بحذر لص، و إذ بطفلتها "شام"
تركض مسرعة مهللة صارخة كزوبعة صحراوية، تضمها و تكيل القبل كأنهما لم يلتقيا منذ
سنين همست: اخفضي صوتك يا شام والدك تعب و ربما نائم.
من قعر الغرفة أصوات السعال ترافقها بعض الأوامر: ميادة أتيتِ! لا
تنسي كأس الزهورات... تتخلص ميادة من أحمالها؛ كجمل هجع من ثقل الهودج، ترمي محفظة
يدها و الكمبيوتر المحمول جهة اليمين، و في الجهة المقابلة كيس بلاستيكي داخله قطع
شوكولاتة وعباءتها السوداء و شالها، تسرع باتجاه المطبخ. تتبعها شام كظلها، بعد أن
التقطت غنيمتها، لتبدأ سلسلة أسئلتها و أحاديثها المعتادة. أشارت ميادة و أصبعها
فوق فمها، فانصاعت شام لإيماءة والدتها، و وشوشتها "ماما شو يعني كاسة
زهورات"
- كم عمرك يا شام!
- سبع سنين.
ـ اسمعي يا حبيبتي كأس زهورات يعني وطن. تصرخ شام سنحصل على جواز سفر
و نرجع لسوريا بإمكاننا السفر. تضحك أمها لبراءة طفلتها قائلةً: ربما اخترت كلمة
يصعب عليك ربطها بالزهورات.
ـ لا يا أمي أنا أفهم كل شيء و درسنا بمادة ال social معنى كلمة Country
ـ احضري أطلس البلدان.
تُخرج ميادة في هذه الأثناء وعاءً زجاجياً ذا غطاء فضي بداخله زهورات.
تأخذ ميادة الأطلس من يد ابنتها و تفتح الكتاب على خارطة سورية، ثم تفتح
"المرتبان" فيعبق الجو برائحة عطرية راتينجية، هي مزيج من الورود و الأعشاب
و زهر الليمون المجفف من أسمى الروائح، رائحة مترعة بالأمل تختزل حياة و سنين
رائحة المطر و برد الشتاء والمدفأة التي يلتف حولها الأطفال، كما يلتف الشال حول
العنق. رائحة مليئة بالحكايات و الضحكات. تجرعت نفساً جعل الذكريات تتسارع إلى
رأسها مثقلة بأصوات الجيران، و قرع كاسات الزهورات فوق صينية الستانلس، هيمنت
دقيقة صمت، كسره صوت شام: ماما هيا أخبريني عن الزهورات و الوطن.
أحضري المفرش البلاستيكي و تعالي. غابت ميادة قليلاً و عادت تحمل
بيدها طرحة فستان عرسها من قماش التول الأبيض المطرز، أزاحت المفرش البلاستيكي و فرشت
طرحتها على الأرض، مفرش مترف يليق بزهورٍ سوريا، شهقت شام ما أجملها! أفرغت الأم
محتوى المرتبان فوق الطرحة، و خيل لها أن ياسمينة حقيقية عرشت تحمل كافة أنواع
الورود الشامية، بينما شام تملأ كفها الصغيرة بالزهورات و ترشقها فوق إكليل أمها
ضاحكةً مهللة.
أشارت ميادة إلى الخريطة انظري ياصغيرتي، سنبدأ من الشمال اقرأي،
تتهجى الطفلة الكلمة بصعوبة حلب.
تحدثها أمها قائلةً: ينبت
المردكوش بحلب و هو نبات عطري رائحتة ذكية، يعطي خلطه الزهورات مذاقاً خاصاً، تجمع
ميادة المردكوش و تريه لابنتها فتتنشق رائحته لتضيف جمالاً و زهواً لطفولتها.
يضعن كومة المردكوش جانباً،
تمرر الأم أصبع طفلتها من حلب نزولاً إلى حمص، و تتهجى الطفلة الكلمة تجمع الأم
أغصان الزوفة الرقيقة برائحتها الناعمة كأنها مُزجت بعطر خفيف، و يصنعان كومة
ثانية تصفق شام فتقبلها أمها بلطف على شعرها، تبدأ مخيلتهما بالجموح هيا لنلحق
القطار المتجه إلى دمشق تجمعان أوراق المليسة الخضراء المثقلة بمزيج عطري نفاث.
يتحرك إصبع الأم جنوباً، يتسلق جبل العرب تقطفان الورد الجوري بألوانه و أشكاله
المختلفة، ما زال الجوري محتفظاً برائحته كعطر فرنسي نفيس لا مرئي تعلوه أبهة
ملكية، كومة الجوري هذه كانت الأكثر جرأة تسللت للذاكرة و فتحت باب حديقة منزلها،
سمحت لميادة الصغيرة بالعودة من زمن الياسمين محملة بعبير أخاذ نادر الوجود،
أكملتا المسير باتجاه حوران حيث يكثر البابونج بعطره الراتينجي المميز، تضع شام
بعض أزهار البابونج الصفراء و البيضاء خلف أذنها، فتبدو كإلهة الشمس، هكذا طافَتا
سوريا من شمالها إلى جنوبها، بموسم حصاد اختصر ربيع وطن بأزهاره و نباتاته، ما إن
تشمها حتى تستدعي بقوة كافة أشكال البقاء و الأمل بحياة أفضل، تحولت طرحة العرس
البيضاء إلى محافظات سوريا مقسمة تباعاً حسب تسلسل الزهورات، أخذت شام تشير
بأصابعها إلى النباتات المجففة مرددة حلب، حمص، دمشق... الأن عرفت يا أمي ماذا
تعني كأس زهورات.
- ليس بعد ياحبيبتي لن تحصلي
على الكأس ما دامت متفرقة، علينا أن نخلطها لعمل توليفة موحدة تندمج فيها الروائح
و النكهات، فتعطي خلاصة وطن و ترياقاً لن تجديه في أي مكان آخر.
شام: كيف نخلطها؟
تمسك ميادة بطرفي الطرحة
قائلة قلديني. تمسك شام بالطرفين المقابلين، قربي يديكِ من يديَّ، و ارفعي الطرحة
قليلاً حتى تتكور بين الأيدي المتلاصقة، كتكور الوطن في الذاكرة، و كتكور جنين
برحم أمه، تتدحرج الزهورات لتشكل كتلة واحدة، تنفض ميادة الطرحة للأعلى فتتطاير
الأزهار و تعبق الأرجاء بشذى عذب تتصاعد معه الذكريات، لتعانق السماء هبوطاّ و صعوداً،
تكرر الأم حركتها مراراً فتسمع ضحكات أطفال.
يخرج زوجها من غرفته محدثاً والدته عبر جواله: نعم وصلت ميادة، طلبتُ
منها كأس زهورات...
يقفل هاتفه مخاطباً زوجته التي لم تسمع كلماته، لقد تظافرت حواسها
الخمسة و تحولت للشم، مكثفة قواها لاسترجاع جمال ماضيها.
يردف قائلاً: لا داعي يا زوجتي لإعداد الزهورات سأذهب لرؤية والدتي و أشربها
هناك.