مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

الهروب إلى الجحيم بقلم: مهند يحيى حسن (العراق)

ما لم تدونه سجلات ناسا
( 1 )
الهروب إلى الجحيم
بقلم: مهند يحيى حسن (العراق)
أصبح من الصعب أن يدرك شيئاً، لكنه في اللحظة التي تسبق الاختناق؛ استطاع أن يميز صوته من بين حشد أصوات الانفجارات المتناثرة، هادئاً هدوء الموت, ثائراً، عنيفاً، تمطى كل شيء بعد ذلك بوجل هارب و مفزع...
لم يعد يميز من معالم وعيه المفرغ سوى بئرعميقة يسبح  فيها بلا هوادة كحصاة منبوذة، فارقتها يد لصبي ريفي مذعور ما انفك يراود أخواتها في لعبته الطائشة... بئر متناثرة الأبعاد, يطويها الفراغ المظلم، تنتظر قدومه بفارغ الصبر لتغرقه في دثارها الأثيري  المبهم... بئر لا تتنفس إلا بتموجات جسده و هو يحمل ثقل الجسم، و كومة أحزان محمولة في سلة أوراق عقله المرهق
((هذا الصمت يرعبه و يحذر شغفه للتذكر، يبلعه ككفن مفروش، كجراد متناسل في حقل لا متناه...))
ـ ما أبشع أن يتغير كل شئ هكذا!. قبل لحظات كنت متواريا ً في كبسولة نومي الرنينية، أنعم بنوم هانئ، إلا أن كابوسا مرعبا أقض مضجعي، و جعلني أغادر إيقاعات أنفاسي الدافئة على حين غرّة؛ اللعنة على الأحلام، و ما تجره على أصحابها من ويلات.
رفع رأسه إلى الفضاء الداكن مبهوتا، غاضبا؛ كانت شظايا مركبته الممزقة  تودعه بهدوء
-              بـ... يـ... ت...!
انتفض بشدة؛ "النيازك تتنزه في الليالي الصافية" هكذا قالت جدته و هو صغير... ذكريات بريئة تتواثب لتنقض على ما بقي من جسده المتعب؛ كان يبكي عندما كانت تحكي له قصة دمعتها و هي تحوك بقايا أمانيها الملتمعة بمذنبها الأثير...
انتفض لحركة لا يعلم مصدرها إلا أنه أحس بدنو جُرُم لموتٍ يتجه نحوه.
قبل قليل كان برفقة أصدقائه المذعورين من سماع صوت إنذار مركبتهم الكبيرة؛ و محاولاتهم اليائسة لركوب مركبات الطوارئ المخصصة لهذه الرحلة.
-        اللعنة على النيازك، و ما تجره علينا من ويلات؛ ألم تجد غيري كي تصطاد فرحته بسنارتها المزعجة، و تحيل موائد الفرح المؤجل فيها الى مأدبة للعزاء؟!... يالحظك العاثر يا عمر، لم تفترش يوما وسادة الفرح إلا و داهمتها دموع الكوابيس، فما شأنك و تلك المركبة المغادرة لجغرافية بلدك المحترق
ـ إلى الـ... بـ...ـيـ...ت...!
لم يستطع أن يرفع رأسه مرة أخرى، وبخه شقيقه الأوسط و هو يتابع في التلفاز؛ إعلان مركبة ناسا للحالمين بمكان آمن، و وعودها في توفير مستعمرة فضائية إنموذجية؛ تحل محل بلدانهم المحترقة بنيران العداءات الإثنية و المذهبية، و توفر لهم فرصا لحياة افتقدوها في بلدانهم الغارقة بالسراق  و المعممين.
ـ ..ـجـ...ـع إلـ...ى الـ... بـ...ـيـ..ت...!...!
أكنت تظن – و أنت تتفاجأ برؤية اسمك متصدرا قائمة أقرانك - أنك ستكون شخصاً مرموقا في المستقبل، و أنك ستعوض لحظات الحزن بحلم آمن في كوكب غريب عن بيتك.
ـ أ... ر... ـجـ... ـع إلـ...ى... الـ... بـ... ـيـ... ت...!...!
بعض بقايا ما تلفظ به جنرال شركتهم وهو يودعنا بخطبته القصيرة؛ كان عصيا ً على الفهم، حتى و أنا أتذكر بعض من مفرداتي الإنكليزية التي كانت تتلفظ بها معلمة صفي الخامس منذ صغري، و لعل لفظة ( يو ويل كَو ) ذكرتني بأغنية مادونية حالمة إلا أن لفظة ( ديد ) و ( بلاك بوكس ) الغريبتين ضيعت ما أردت أن أتذكره منها؛ ترى ماذا كان يقصد؟، و ماذا كان يوجد في تلك العلبة السوداء الممنوحة لربان سفينتنا الأصلع...؟!.
ـ ر... يـ... ـد... أ...ن  أ... ر... ـجـ... ـع إلى... الـ... بـ... ـيـ... ت...!...!
وجه والدته القابضة على نعش أخيه بقوة كان يرمقه بوجع مسترسل، مدفون بلهاث قافية موؤدة... ماتت و هي تضع أنفاسها في  قبلتها الأخيرة.
ـ أريد أن أرجع إلى البيت...!
البعوضة التي تجري في عروقه جعلته يدرك أنه سيسحق تماما ً تحت كف القدر، إذا هو لم يتحرك!
مخالفته لأمر اخته الكبرى ـ و هي تنهره و تأمره بالابتعاد عن أصحاب اللحى المنتوفة، و جريه أمام جنانهم الموعودة ـ شنيعة جدا. ً
تموجت حركاته باتجاهات أهليليجية؛ توقفت الحياة في داخله فجأة، لا يدري كم من الوقت مرَّ قبل أن تتدفق الدماء في عروقه كسيل هادر لتهدم سد الخوار في داخله؟, نظر باتجاه آخر بصيص لآخر شظية مشتعلة من مركبته المدمرة، أرخى أغشية جفونه المتعبة قليلا؛ قطّب حاجبيه... غير معقول؛ بذلتين معدنيتين قادمتين باتجاهه، يبدو أن عصف الانفجار الذي أطلقه في هذا المدار الشاحب؛ لم يسقطه وحده. حاول أن يتفحص أزرار بذلته الفضية، بدأ يجربها واحدا تلو الآخر كي يحقق اتصال آمن مع الكتلتين القادمتين باتجاهه.
-   ألو... ألو... هل تسمعني أجب...؟
-   ..........
مرت ما يقرب خمس دقائق قبل أن يأتيه الرد:
-                                                                                      ـ ألو... يا الهي... أريد أن أرجع الى البيت...؟
-                                                                                      ـ من معي... ألو...؟
-                                                                                      ـ أنا يوحنا، القابع في العنبر 13؛ يا إلهي لا أريد أن أموت...
-                                                                                      ـ احتفظ بأعصابك يا يوحنا، فجميعنا نواجه المصير نفسه.
-                                                                                      ـ لا أريد أن أكون هنا، بل في (كابا كيتا) الذي وعدونا به.
-                                                                                      ـ ما زلنا نمتلك فرصة في أن يعثر علينا أحد.
-  يجب أن يعثر عليّ أحد، يجب أن أعيش، فأنا و منذ لحظة تركي للعمل كمترجم مع قوات التحالف الصديقة و الحظ العاثر يلازمني.
-  يا لك من عميل مسكين يا يوحنا.
-  أخرس...
-  لست أنا من قال ذلك
-  إنه أنا علي... يا يوحنا ألم تميّز صوتي؟!
-  قلت لك أسكت... آسف يا عمر لم أكن أقصدك، بل كنت أقصد هذا الموبوء العاشق للعنة المظلومية.
-  تعال هنا لتسكتني أيها الصليبي الآثم... هيا تقدم لتسكتني...
-  إخرسا كلاكما؛ ألا تزالان تمارسان أفعالكما الصبيانية حتى و نحن في هذا الموقف؟.
-  ما بك يا ناصبي؛ الحوار لا يخصك؟
-  قلت لك اخرس و اسمع
-  أنا لا أسمع شيئا
-  ولا أنا...
-  اخرسا كلاكما و انظرا إلى ذلك الخيال القادم على يساركما
-  ما هذا يا الهي إنه قادم نحوي
-  إنه يصرخ، لقد بدأ صوته يمزق أذني
-  أمسكه...!
-  لا أستطيع...
-  امسكه من قدمه و تسلق جسمه و حاول أن توقفه و أن لم تستطع فهشم خوذته و اتركه ليسبح في تابوته اللامرئي إلى حين يبعثون.
-  ما هذا يا علي؛ يبدو أنك لم تنس بطولاتك في قتل الناس العزل و أنت تمارس أفعالك الميليشياوية الحقيرة؛ اتركه لحاله و هو سيمضي باتجاه سيل النيازك الذي حطم مركبتنا، و هي ستتكفل باسكاته.
-  إنه يوشع الصابئي
-  نعم أعرف ذلك
-  لقد فقد عائلته في الأحداث الأخيرة التي عصفت بمنطقته أخيرا
-  مسكين سيلاقيهم عما قريب
-  يبدو ذلك
-  ...
-  ...
-  أتذكر كلمة قالها الجنرال جاك ذات يوم، عندما عثرنا على جثتين لشرطي و إرهابي قتلا في إحدى المواجهات .
-  ها... و أخيرا خرج يوحنا عن صمته
-  اخرس يا علي و اتركه ليتحدث... أكمل يا يوحنا؛ ما الذي أخبركم به جنرالكم هذا؟
-  و ما الذي سيخبرهم به غير الترهات؟
-  لقد قال جملة ما زلت أتذكر صداها في أذني حتى الآن
-  أخبرنا أيها الصليبي ما الذي أخبرك به جنرالك الكافر و كفى؟
-  اخرس يا علي و دعه يتحدث
-  أمرك أيها الناصبي
-  اللعنة على العراقيين
-  إنه يلعننا الآن، هل تريدني أن أرد عليه الآن أم تسكته أنت؟
-  لا... لا، لقد قال: اللعنة على العراقيين. جميعهم متشابهون عند الموت، و لايميزهم شيء سوى أنوفهم المعقوفة و الأرقام المغروزة بين أصابعهم عند مماتهم
-  اللعنة على الأمريكان، و على من والاهم، فهم من جلبوا علينا هذه المصائب منذ البداية
-  فعلا لولاهم لما كنا هنا أصلا، و لكنت تزوجت من ابنة خالتك هالة
-  و هل كنت تظن أنني سأسمح لك بأخذها أيها الرافضي؟
-  ما هذا يا عمر، هل كنت لترفض، و نحن لم نصب أصلا بهذه اللوثة المفتعلة بعد؟
-  لا لن أرفض  ، فأنا كذلك كنت سأتقدم لخطبة ميادة
-  هل تقصد ميادة النصرانية، التي كانت تدرس في قسم اللغة الإنكليزية؟
-  نعم، لقد كنا نتسامر و نحلم ببناء عش جميل حال تخرجنا، و لكن الظروف اقتضت أن تهاجر إلى قبرص لتغرق مع من غرقوا أثناء فترة نزوحهم الأخيرة .
-  جميعنا غرقى يا صاحبي، لا تبتئس، ألا تسمي ما نحن فيه غرقا أم ماذا؟
-  فعلا نحن نغرق في سديم لا متناه.
-  أين يوحنا فأنا لم أسمع صوته منذ برهة؟
-  لا أعلم، قد تكون الموجة المعدنية التي مرت بقربي قد سحبته معها.
-  هل تقصد تلك المتجهة باتجاه أورانوس؟
-  نعم...
-  رافقتك السلامة يا صاحبي، و أعانك الرب الواحد على تحمل وحدتك الفضائية الجديدة
-  يبدو أن الاشارة التي أطلقناها قبيل محاولتنا للولوج إلى أطواق النجاة لم تفلح ، وسنلاقي المصير ذاته يا صديقي.
-  يبدو ذلك...
-  ...
-  هل أنت معي... علي؟!
-  نعم أنا معك و لكنني أفكر في حساب وجهتي يا صاحبي
-  و أين تعتقد أنها ستكون؟
-  لا أعلم، و لكنني أعتقد بأنها ستكون باتجاه الكوكب الميثاني الأحمر
-  هل تقصد المريخ؟
-  نعم... المريخ أو مارس... سمه ما شئت
-  فلترافقك السلامة إذن
-  وأنت أين تعتقد ستكون محطتك الأخيرة؟
-  يبدو أنني سأتجه إلى الكوكب الذي هربنا من جحيمه...؟
-  هههههه، هل تقصد الأرض؟
-  نعم...
-  و لماذا أنت حزين يا صاحبي، على الأقل أنت الأوفر حظا منا ، فسيضم رفاتك الرحم الذي نشأت منه؟
-  أنا لست حزينا لهذا...؟
-  و مما أنت حزين أذن...؟
-  أنا حزين، لأنني سأمر بكوارث غلافنا الجوي و أنت تعلم ما سيحصل بعدها.
-  هل تقصد مصير الاحتراق...؟
-  لا أقصد الاحتراق
-  اذن ماذا تقصد...؟
-  أقصد الاشتعال...
-  و ما هو الفرق بينهما
-  هنالك فرق واضح
-  وما هو...؟!
-  إنني أخشى أن أدخل مجالنا الجوي بعد الساعة التاسعة من توقيت عاصمتنا الجريحة بغداد .
-  وماذا في ذلك...؟
-  أخشى أن يراني طفل صغير فيتوقع أنني نيزك فيتمنى أمنية كما كنت أفعلها و أنا صغير
-  و ماذا كنت تتمنى؟... هل كنت تتمنى أن تنعم بحوريات العين كما كنت تنظّر أنت و صحبك المتشددين ذات مساء؟!
- لا... كنت أتمنى كلما رأيت مذنبا قادما، أن يحفظ ألله بلدنا و يسلمه من كل مكروه
-  ...
-  علي... هل أنت معي؟
- نعم يا صاحبي، اعذرني فقد أثرت فيّ كلماتك الطفولية الصادقة، ألا لعنة ألله على من أوصلنا إلى هذه الحالة.
-  لن تفيدنا الشتائم، فما حصل قد حصل
-  فعلا ما حصل قد حصل
-  ...
-  عمر... عمر هل أنت معي...؟!
-  نعم يا صاحبي... أنا معك
-  قد أخبرتني بمخاوفك، و لم أخبرك بما أحس به هذه اللحظة
-  تحدث، فلم يعد أمامنا سوى هذا الحوار و هذه العزلة القاتلة.
-  أنا أخشى أن لا يعلم بمصيرنا أحد، و يتصورون بأننا الآن ننعم مع النباتات المحبة لجنسنا، و هي تقلد شكل فتياتنا لتجذبنا فنمارس معها ما تعلم.
-  أكيد لن يعلم أحد يا صديقي، فهم قد خدعوا العالم ليستبيحوا دماءنا، و ظللوا الرأي العام، ليخفوا بشاعة حقيقتهم، فهل تظن بأنهم سيعلنون عن حقيقة ما يحصل بعيدا عن أجهزة رصدهم وخزعبلاتهم .
-  صدقت يا صديقي...
-  هل تعتقد بأن هذه هي النهاية...
-  ...
-  علي... هل أنت معي...؟
-  ...
-  يبدو أن بطاريتك قد نفذت، أو أنك أصبحت في مرمى بعيد عن مجال اتصالي اللاسلكي.
-  ...
- إذا كنت تسمعني يا صديقي فسامحني لأنني لم أمد يد محبتي نحوك وأقتلع بذور ما حيك في صدورنا اثناء مأساتنا الأخيرة.
-  ...
-  ...
-  ...!

هامش :
جاء في أحد ملفات الأرشيف الفضائي لوكالة ناسا تقريرا مفاده، فقدان المركبة ( انتبرايز )؛ المتوجهة إلى مجرة ( أندروميدا ) بعد مرورها في حقل نيزكي، بالقرب من الكوكب ( فالون )، و على الرغم من عدم قدرة طاقم الأسطول ( مارشمال ) من العثور على حطام المركبة و تحديد موقع صندوقها الأسود، إلا أن محطة الكوكب ( زايون ) قد عثرت على بقايا راديوية؛ يشتبه في كونها محادثة لاسلكية بسيطة لبعض الناجين من الانفجار المهول، و لا تزال محاولات تحليل الإشارة قائمة؛ رغم السرية التي أحيط بها الموضوع.

انتهى