مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

إلى بعيد بقلم: هدى عبد المحسن عبد الهادي (مصر)

إلى بعيد
بقلم: هدى عبد المحسن عبد الهادي (مصر)
استبق سعد شمس الصباح المتمطية، فسبقها. لم يكن سعد حريصا على حرث الأرض، و لم يكن مولعا بحبات التراب التي ينبغي عليه سقياها. كانت تحثه رغبة وحيدة، بسببها يخرج باكرا و من أجلها يعود إلى داره قبل بقية الفلاحين؛ ليودع شمسه و يستقبل العائدين.
منكفئا على فأسه، و ملتحما معه فى هيئة واحدة، ظل رأس سعد المحنى يفكر - مشفقا – في البذور التي يبثها في أرجاء التربة، و يتصورها إذا شبت شجيرات متطلعة، فشجرات راسية مغلولة بجذورها و مرغمة على عدم مبارحة محلها.
و حين استند سعد إلى ظل شجرة، راح يحلم باستلقائه اليومي على حافة سطح بيتهم.
متوسدا ذراعيه، استلقى سعد في جلبابه الهفاف على حصيرة بالية فوق السطح المسقوف بجذوع النخل، يحدّ نظره إلى الأفق البعيد الذي تستغرق لوحته شخوص الصيادين العائدين من رحلاتهم النهرية، و الطيور الرائحة إلى أعشاشها، و شمس تلملم ما تبقى من أشعتها. سويعات نحيلة يغسل بأزرقها و ألوانها الساطعة أسود أرضه القاتمة!.
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
حين أراد سعد في صغره أن ينزل النهر الذي يسميه أهل بلدته "البحر"، منعه والداه و ذكراه بالدَّوَّامة، تلك الغولة الحلزونية التي تلتهم كل من يجترئ فيتعدى على حدودها، و بعدما تمضغه مضغات فاتكة، تبصقه جثة هامدة على شاطئ البحر. مع ذلك لم يخش سعد الدوامة، و لم يتخيلها قط على هذا النحو الدموي، كانت فى رأسه أقرب إلى دوامة الخيل التي يتشارك ركوبها - في الأعياد - مع فتية القرية و فتياتها، ستدور به و تدور، و سيصرخ فرحا، و سيلوح بذراعيه و هو مغمض العينين و سيتمنى ألا تتوقف أبدا ، و تظل تدور به حتى... يمل؟! لا أبدا لن يمل ركوبها أو هكذا تصور.
في صغره، غلبه خوفه. و في كبره، غلبته أشياء كثر! أشياء غلته إلى والده الذي ألزمه رعاية الأرض، بضعة قراريط سماها والده "ميراث الأجداد"! و لما رأى الحاج عويضة - يوما - عزم سعد على مفارقة القرية و الرحيل مع الصيادين، استنجد بشيخ القرية الذي علمه حديثا واحدا من السُّنة لم يزل يردده حتى اشتهر أبو سعد بالحاج عويضة رَغِمَ أنفه. استثمر الحاج عويضة هذا الحديث استثمار خبير يحسن سياسة فرسه، و ظل يسوط به ابنه كلما شعر منه بمبتدأ رغبة في ترك القرية.
في فلاحته اليومية تخيل سعد لو صارت الأرض صريما أو تفتحت في أكمام الشجر أجنحة تتحرك به كشجر اليمامة، و في رقدته اليومية تمنى لو تتكاتف الأطيار وتحمله إلى بعيد...
أو يبرعم له جناحان يطوَّفان به إلى حيث يريد.
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
قام سعد من رقاده ، و دوار يؤرجح رأسه كبندول ساعة. أغمض عينيه و فتحهما فرأى صور الصيادين تتداخل مع قرص الشفق الأحمر في نسيج غير متجانس. حاول سعد أن يتماسك و امتدت يداه تتشبث بطرف الهواء، فسحب الهواء عباءته و ترك يديه لتسقطا في الفراغ.
- ما الذي حدث يا أولاد؟ سأل أحدهم و هو يخترق لغط الواقفين.
- سعد بن عويضة وقع من فوق سطح بيتهم! أجابه آخر و هو يضرب كفا بكف.
لم تلتقط أذنا سعد - المنطرح على الأرض - شيئا من غثاء أصواتهم، و لم تكن عيناه تريان أى من خيالات الجمع الملتف حوله... كانت عيناه المسمرتان تنظران إلى بعيد... إلى بعيد...!.
تمت
ديسمبر 2014