المركزالثالث مكرر
حجارة قلم
بقلم/
وليد أحمد الزهيري: مصري ـ محل
الإقامة/ الكويت
(1)
شرد ذهنه قليلًا، موجهًا ناظريه نحو بنايات
(المنيل) الشاهقة الجاثمة على ضفة النيل، فرك (الريس رزق) لحيته البيضاء المدببة
بكفه ملاحقًا شمس الأصيل و هي تتوارى خلف الأعمدة الخرسانية، حتى أعاده من شروده
اهتزاز قاربه الساكن في عرض النيل، و الصوت المنبعث من راديو صغير بجواره لا
يفارقه:
ـ نستمع الآن لآيات من الذكر الحكيم، يتلوها
علينا القارئ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد:
"مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ
(19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)"[1]
قبض بيديه المجعدتين على المجدافين، حرَّكهما
قليلًا جاذبًا قاربه للخلف، و ابنه الأكبر (يسري) الواقف على حافته بجسده النحيل
متجاوزًا العشرين من عمره بقليل، منحنيًا للأمام يسحب الشباك من بين قدميه، و
يلقيها بروية في قاع النيل، و يمده بالشباك المفرودة الابن الأصغر (ماهر) المطل
على مشارف المراهقة و الواقف بقاع المركب، لمح (ماهر) بنظرة حادة نباتات شاردة على
شاطئ النيل، ملأت شفتاه ابتسامة عريضة، جذب (يسري) الشباك من بين قدميه، مخاطبًا
أخيه:
ـ
هِمّ بالغزل.
عاد لفرد شباك الصيد في همة:
ـ
آهو.
أتم ولديه عملهما، رفع الأب يديه للسماء:
ـ
يا رب حنن قلب السمك علينا.
أمسك بمجدافيه في طريق العودة، على أن
يعاودوا جمع شباكهم فجرًا، منصتًا لابتهالات النقشبندي:
ـ
مولاي إني ببابك... قد بسطت يدي... من لي ألوذ به إلاك يا سندي؟
تودد (ماهر) لأبيه مشيرًا ناحية الشاطئ:
ـ
معلش يابا؛ اقطع بوصة من جانب العوامة اللي هناك.
غير اتجاه القارب:
ـ
أما نشوف آخرتها معاك يا سي (ماهر).
(2)
وثب وثبة فهد عند اقترابهم من الشاطئ، جذب
أحد أعواد الغاب الجاف الممشوق، جز (قصبة) منها و دسها في قميصه، ملأت البهجة صدره
عائدًا بصيده الثمين.
صمت (الراديو) فجأة، حاول أبوهم إعادة
تشغيله، إلا أنه لم ينطق، دسَّه في سيالة جلبابه عندما سمع صوت (سارينة) زورق شرطة
المسطحات المائية متجهًا نحوهم يشق صفحة النيل، أسرع (يسري) بالجلوس إلى جانب
أبيه، أمسك كل منهما بمجداف محاولين جذب قاربهم بعيدًا، إلا أن توترهما لم
يمكِّنهما، رمقهم الشرطي الواقف في مقدمة الزورق بنظرة و صوت حاد:
ـ
رخصكم.
نهض الأب متوجهًا نحو مقدمة القارب، مد يمينه
داخل جلبابه مخرجًا من الصديري محفظته، و قدّم رخصته بابتسامة متملِّقة تملأ وجهه:
ـ
إحنا في السليم يا بيه.
تفحّص وجوه من على متن الزورق، رفع صوته
ضاحكًا:
ـ
مرحب (ح الصول عبد القادر).
ـ
إيه اللي وقّفك هنا (يا رزق)؟ مش عارف دي عوامة مين؟
ـ
الواد (ماهر) الله يجازيه بيحب المزِّيكا زي ما أنت عارف.
نظر في جوف محفظته، مد يده فيها، و أخرجها
مضمومة، و وضعها في يد الشرطي الممسك بالرخصة، مخاطبًا (الصول عبد القادر):
ـ
يومك نادي يا باشا.
ـ
ماشي يا (ريس رزق)، رجّع له الرخصة، مش عايز أشوفك هنا تاني.
عاد الزورق من حيث أتى قبل أن يسمع جوابه،
جلس (رزق) في مقدمة قاربهم المتأرجح، رامقًا (ماهر) المتكور عند نهايته:
ـ
آدي اللي بناخده من المزيكا.
قاطعه (يسري) وهو يجدف عائدًا:
ـ
حصل خير يابا، ما أنت عارف (عبد القادر)، ما بيعتقناش في الراحة ولا في الجاية.
(3)
يجلس (صول عبد القادر) في باطن الزورق، أمامه
كومة من العملات الورقية، يصنِّفها كل فئة على حده، فتح له (الأونباشي[2])
زجاجة مياه غازية وعينه تسبق في العد يد (عبد القادر):
ـ طرِّي على قلبك يا (ح الصول)، الغلة اليوم
تمام.
أخذ منه الزجاجة، و وضع في يده لفافة من
الفئات النقدية الصغيرة، مشيرًا بأطراف أصابعه دائريًّا:
ـ
إنت وزمايلك.
دق
هاتف (عبد القادر) و أخرجه من سترته، واضعًا مكانه نصيبه من النقدية:
ـ آلو... الكتب حاشتريها الليلة، لازم تدخلي
طب، و تبقي أحسن من بنت المأمور.
(4)
رسوا بجوار قارب العائلة ذي الأربعة أمتار
طولًا و مترين عرضًا، حيث المحيا و المنام، تجلس الأم في قاعه بوزنها الزائد و
شعرها الأشيب المتواري أسفل (العصبة)، أمامها علبة من الصفيح مغلقة من ثلاث جوانب
حاجبةً الهواء عن (وابور الجاز) المستقر بداخلها، تطهو فوقه حلة (أرز)، تتصاعد
أبخرته الشهية، و بجوارها زوجة (يسري) التي لم تتجاوز العشرين بعد، تنظّف أعواد
الجرجير.
تمرجح القارب عند جلوس (الريس رزق) و (يسري)
في المقدمة، و سير (ماهر) بطول المركب للجلوس خلف أمه، رامقًا زوجة أخيه الجالسة
بالقاع في طريقه، فقبضت على ياقة جلبابها و ضمتها حول عنقها حتى تجاوزها.
كشفت (أم يسري) غطاء الحلة متلفتة حولها،
أمسكت بطبق و ملعقة، و بدأت في الغرف، رفعت صوتها متغلبة على ضجيج (الوابور):
ـ
مالك يا (أبو يسري)؟
نظر خلفها، قائلًا:
ـ
(الصول عبد القادر)...
مدّت يدها في جوف القارب و أخرجت سمكة مشوية،
و ضعتها فوق طبق الأرز الممتلئ، أخذته زوجة ابنها، و نفضت عودين من الجرجير،
وضعتهما بجوار السمكة:
ـ خد يابا.
لمحت الأم بطرف عينها (رزق) غير المقبل على
طعامه، فأطفأت (الوابور):
ـ ربنا يعوَّض عليك.
(5)
أسدل الليل ستاره على صفحة النيل المضاءة
بالأضواء المتكسرة على أمواجه المتهدلة، تؤرق مضاجعها القوارب العملاقة الذاهبة و
العائدة على صفحته، سحب (الريس رزق) رشفة من كوب الشاي:
ـ البحر زحمة الليلة!
علقت عيني (يسري) بظهر قارب ذي طابقين،
متابعًا فتى و فتاة متقاربين يمسك كل منهما بيد الآخر، مجيبًا أباه دون أن يدير
عينيه عنهما:
ـ راس السنة يابا.
استمر في رشف الشاي و بقية الأكواب مرفوعة
على أفواه أسرته، والأعين عالقة مع سريان القارب ذي الطابقين، أخرج (الريس رزق) من
جيبه (الراديو) خبط على ظهره، لم ينطق، أخرج بطاريتيه، ضغط على منتصف الأولى و
الثانية بأسنانه دافعًا الكربون نحو الأطراف ثم أعادهما، دب صوت الحياة؛ انفرجت
اساريره باحثًا بين موجاته الإذاعية موجهًا مؤشره يمينًا و يسارًا ـ كما يوجه دفة
قاربه ـ حتى استقر على إحداها، رفع صوت الراديو محاولًا جذب انتباههم:
ـ أعزائي المستمعين، كل سنة و أنتم طيبين،
نرحب بكم في أمسية خاصة بمناسبة رأس السنة، نستمع اليوم إليكم أكثر مما تستمعون
إلينا، وسؤالنا لكل المتصلين هو:
ـ ما هو حلمك للعام القادم؟
ـ و الآن مع المطرب (عبد الحليم حافظ) في
أغنية (بحلم بك) في انتظار اتصالاتكم.
لمعت أعين (الريس رزق):
ـ إيه رأيكم يا ولاد كل واحد يقول حلم نفسه
يحققه السنة الجاية؟
أصابت أعينهم نفس اللمعة، نظروا لأنفسهم
مجيبين بصوت واحد:
ـ موافقين.
مد (الريس رزق) يده بكوبه الفارغ:
ـ ولعوا لنا على دور شاي، نبدأ بمين؟
انتفض (ماهر) من مكانه واقفًا:
ـ آني يابا.
هز (الريس رزق) رأسه موافقًا، أخرج (ماهر)
قصبة الغاب من داخل قميصه، جلس بجوار أمه، و مد يده بها نحو النار المنبعثة من
(الوابور)، و هو يلفها دائريًّا للأمام و الخلف، محرقًا الزوائد التي حولها:
ـ عارفة يا أمه، نفسي أدخل المدرسة، و اتعلم
المزيكا.
قاطعه (الريس رزق) ساخرًا:
ـ جتك نيلة في خيبتك، عايز تسيب (كار) أبوك و
جدود جدودك، و تلف ورا الغوازي بزمّارة؟
سخروا جميعًا بضحكات مكظومة من (ماهر).
ـ قولي أنت يا (أم يسري).
لم يرفع (ماهر) عينيه عن (قصبته) بعدما أتم
(تجليسها) على النار، أمسك بسكين، محاولًا فتح ثقوب بطول القصبة، رفعت أمه (براد)
الشاي عن النار، و صبت الماء في الأكواب و استدارت خلفها مخرجة علبة السكر من جوف
القارب، و قامت بتلقيم الأكواب:
ـ آني نفسي في بوتوجاز.
نبتت على ثغرها ابتسامة خجلة، و هي تذيب
السكر في الأكواب:
ـ نفسي أطبخ وآني واقفة.
داعبها زوجها:
ـ يا (ولية) أنت الصاري بتاعنا، ياما سندت
ضهري عليكِ.
وجّه دفة الحوار ناحية (يسري) متجنِّبًا
ملاقاة عينيها:
ـ و أنت يا (يسري)؟
أمسك بكوب الشاي من يد زوجته بعد لحظة صامتة:
ـ اتربِّيتي على إيدي، رش الميه كان لعبتنا،
كبرنا و مهرك كان الفلوكة دي ـ مشيرًا نحو قارب صيدهم المجاور ـ و فاتت سنة.
نظر بعيدًا نحو البواخر التي تجوب النهر و من
خلفها الكازينوهات الممتدة على الشاطئ الآخر:
ـ عارفة يا بت، كان نفسي نقعد هناك أيام
الخطوبة في أي كازينو، نمسك إيدين بعض و نبص للميه، و في آخر القعدة أطلَّع كام
جنيه من جيبي معرفش عددهم، و أسيبهم على الترابيزة و نمشي.
مسح وجهه بكفه:
ـ طول عمري عايش هنا في النيل، بس نفسي أعرف
اللي بيقعدوا هناك بيحسوا بإيه.
ربتت زوجته على يديه بأعين ودودة، قطع (الريس
رزق) نظراتها قائلًا:
ـ وأنتِ نفسك في إيه؟
نظرت لموضع قدميها، هزت رأسها بخجل:
ـ أنت الأول (يابا).
تطلع (الريس رزق) نحو زوجته وهي تعيد
أدوات مطبخها أسفل القارب، و (ماهر) ينظف ثقوب القصبة بعناية، تجاوزهما نحو
الفراغ، شرع في لملمة زكرياته و أمنياته:
ـ البحر زمان كان فاضي علينا، و الرزق ياما،
حتى الصيادين كانوا بيحبوا البحر، و النيل يديهم سمك على قد حبهم.
ضحك ساخرًا:
ـ حتى زمان مكانش فيه (الصول عبد القادر)، بس
السمك قل، و الزريعة بياخدوها للمزارع، حتى الزبون مابَقاش يفرق بين سمك المزارع و
السمك النيلي.
التفتَ بنظره نحو قاع النهر:
ـ نفسي لما أموت تربطوا على بطني حجر و
ترموني هنا.
قاطعته زوجته:
ـ حِسَّك في الدنيا يا (أبو يسري)، ربنا
يخليك لنا.
رأى على وجهها ابتسامة حزينة، تبعتها كسرة
عين، مدعية الانشغال بمراقبة (ماهر) و هو يضع سيخًا داخل القصبة، يدفعه للأمام
دخولًا و خروجًا لإزالة العوائق بداخلها.
خفض (الريس رزق) رأسه متشاغلًا برفع صوت
الراديو، عاقدًا حاجبيه، مبديًا الاهتمام بما يسمع:
ـ نستمع الآن أعزائي المستمعين إلى أغنية الذكريات
(ليه يا بنفسج) للمطرب (صالح عبد الحي).
انفرجت أساريره، قائلًا بصوت باسم:
ـ شوفت (سي صالح) بيغنيها و أنا عيِّل في
(الدهبية) اللي كانت بعد كوبري عباس.
دندن مع الأغنية مستدعيًا ذكرياتها، متمايلًا
يمينًا و يسارًا، إلا أن الراديو صمت فجأة؛ خبطه على ظهره مرات و مرات، محاولًا
إخراج صرخة الحياة مثل (القابلة) من وليد تلقفته على يديها، لكنه لم ينطق؛ نظر
(الريس رزق) للسماء بأعين تملأها خيبة الأمل، بعدما انقطع حبله السري بالحياة:
ـ الحجارة خلصت.
وضع (ماهر) فوهة القصبة بعدما أصبحت (نايًا)
في فمه عازفًا لحن الأغنية، ارتسمت ابتسامة وَجِلة بين الحزن و الرجاء على وجه
أبيه، مسترسلًا مع ذكرياته:
ـ حُسنك في كونك... بلونك... تبهج المقهور.
أسدل جفونه عن الراديو مغنيًا:
ـ اللي يخونه... سميره... في الظلام مكسور.
ـ ليه يا بنفسج... بتبهج... وأنت زهر حزين.
غلب على غنائه ضجيج باخرة نيلية ضخمة، تمخر
في زهو صفحة النيل، تاركة خلفها أمواجًا عالية تؤرجحهم؛ أدارت زوجة (يسري) وجهها
نحو خيالات أضواء العمارات المتكسرة على صفحة النيل:
ـ آني كل ما أخد السمك علشان أبيعه في السوق،
بخاف أدوس ع البر، بس عارفين أنا نفسي في إيه؟... نفسي أسمع رزعة باب.
التفتت نحو زوجها واضعة عينيها في عينيه:
ـ أيوه... رزعة باب.
[2] أونباشي
: رتبة عسكرية تعادل رتبة العريف. والكلمة تركية، مركّبة من لفظين هما
"أون" أي عشرة، و"باشي" أي رأس، والمعنى "رئيس
عشرة".