المركز الرابع
عُملةٌ معدنية
بقلم/ آلاء
عبدالإله القويري: يمنية
مقيمة بالسعودية
أنا هنا، عالقة منذ ساعات. المكان خانقٌ و موحش، مكدّس و رطب، الأجسام
هنا تتشابه، إن أكثر ما يجمعها أمرين: تلك الأمانات الثقيلة، و الزمن الذي لاينته.
ألقى بي أحدهم وسط هذه البئر العتيقة، هكذا و بكل بساطة أخذ يقلّبني
بين إصبعيه حتى أتمّ خشوعه و توسلاته الخاصة، قبل أن يكتب عليّ بعد ذلك عمراً من
البحث المضني عن مخرج و عن دليل، عمراً من تتبع ثقوب صغيرة قد أجد من خلالها
الخلاص لي، و له.
همس لي بأمنيته، بشيء يعني له حياة كاملة، و لا يعني لي أي شيء على
الإطلاق. ثم قذفني برفقٍ موجع وسط بئر الأمنيات العظيم هذا، عظمةً تستدعي التصدي
له لا الاطمئنان و الخضوع إليه.
قبل الارتطام و حين كنتُ أطفو بين قدَرين، كنت على فاصل العمر الطويل،
قد تذوقت ألذّ مسارات حياتي، كان السقوط أشبه بالانتفاض مما كان عالقاً من الماضي، فتخلصت منه، و لم يكن معي شيء للمستقبل أستطيع أن أشغل
به تلك اللحظة تأهباً، لقد كانت فارغة من كل شيء إلا من المعنى العميق، عمري كان
خزلاً في تلك اللحظة فقط.
سقطتُ هنا مثقلةً بالأمانة كما الباقون، سقطت مجبرة رغم أني كنت أصرخ
له في لحظات خشوعه الأخيرة، كنتُ أتضرع مثله، و كانت أمنياتي لا تصِله، كنتُ أفعل
مثله وأقول: "إن كان ما يقوم به عدلاً و حقاً فالأجدر بأمنيتي أن تكون كذلك"، لكنه كان محظوظاً بي و لم أكُ أملك من الحظ شيئاً إذ
كنتُ أشدّ حاجة منه للتمني، فأحدنا معرّض للسقوط دون اختيار، و الآخر هو الفاعل.
لم يكن سقوطي موجعاً، الرفاق هنا بالأسفل مستعدون دوماً لحلول ضيف
جديد، كان الوجع قابعاً فيما حملته معي من الأعلى.
لم يطلب صاحبي هذا الإذن مني، و لم يقدّر مدى كفاءتي لأحمل أمنيته!
كيف يعبث هؤلاء بأمانيّهم؟!
الزمن هنا يفقد قيمته، تمضي الساعات و الأيام و العمر كله و حياتنا
ليست سوى بقاء أبدي و رفقاء جدد يتدفقون بلا توقف. إن العالم في الأعلى لا يكفّ عن
التمني.
لن أشغلكم بتفاصيل الحياةِ الاعتيادية التي نمارسها طوعاً و
كرهاً كل يوم، على مدى الدهر، فالذي يحدث
هنا بخلاف ما يحدث في الأعلى، هنا نكبر دون أن نخسر شيئاً، دون تجاعيد، دون تغيّر،
دون تبدّل، و دون مصالح، قدرنا ألا يمضي
بنا العمر، و نحن في أمسّ الحاجة لأن نخسر من
أعمارنا الكثير، نتوسل النهاية، بأن يُغلق باب الجحيم هذا.
و ياللمفارقة، صاحبي كانت أمنيته التي أودعني إياها أن يُمدّ له
بالعمر!.
في الليلة الأولى سمعت كل الأمنيات، سمعتها متقاطعة متداخلة لا تأبه
بمن حولها، الضجيج مدوٍ و غير متكافئ مع كل هذا العمق و هذه الحلكة.
حدثتني عملة طيبة قُذفتُ بجوارها أن هذا الضجيج مستمر، إن العملات هنا
تهذي بالأمنيات المحملة على عاتقها بصورة مكررة، لقد تشكل في وعيها و على مدار
سنوات أن هذا هو دورها، و أن الانعتاق مكفول بتحققها، فقد جرَبَت جميع الحيَل حتى
تحصد النتيجة المأمولة، و قد كان فيما مضى أشد هذه التجارب فتكاً و قسوة هو
"الصمت"، و تواصِل الرفيقة: "حين
كان عام الصمت- كما شاعت تسميته- كانت القاع هنا أشبه بغرفة عمليات لمرضى ميؤوس من
تعافيهم، الجميع يرقدون في غيبوبة موجعة، لكن بلا أطباء، بلا أزهار أو رعاية، بلا
هواء نقي، و بلا دعوات بالخلاص. و كان من سوء الحظ للعملات الجدد في وقتها أنهنّ
ممن تعرضن لأشد أنواع الألم حتى الآن، فجميع العملات التي قُذفت في ذلك العام ظلّت
صامتة ًحتى يومنا هذا، و أذكر أن قال أحدهم في فكرة تأملية: "بل إن تلك
العملات قد ماتت حين اتخذت من صمتها حياتها الأبدية، لقد كان حظاً جيداً و لم يكُ
بالسيء مثلما تعتقدون".
أخذتُ أتساءل و قد ملأتني هذه الفكرة رعباً، إنكم تقولون بأننا في
الأبدية، و أن الصمت كحياةٍ هنا هو الانفكاك؟ و لكن إن تحققت أمنية صاحبي الجاني
كيف سأعلم أنها تحققت؟ و إذا تحققت و علمت فما الذي سيتغير في أمري؟ هل سيعود صاحبي
لينتشلني من قاع هذه البئر؟"
فصرختُ عالياً و نظري موجهٌ للأعلى: "برجاء أن يتوقف هذا العبث؛
أنتم كاذبون، هذه ذريعة منكم، و الأمنيات صورة
رقيقة تتخلصون بها من بشاعة فعلتكم، نحن الوسيلة لسنا سوى ذلك. أخرجوني من هنا،
أخرِجوا كل الأمنيات من البئر، أخرجوا أمنياتكم من البئر...