المشاركة رقم 23
نظرة أخيرة
بقلم/ ممدوح خليل
اقترب موعد السفر، ذلك الموعد الذي
طالما انتظرته بلهفة كل عام، و كان يمثل قمة
سعادتها و غاية أملها، عندما كانت تسافر لتقضي
عطلتها السنوية في رحاب الأهل و أصدقاء الطفولة،
و تستعيد خلال العطلة ذكريات لم تغب يوماً عن مخيلتها. كيف
تحول السفر هذه المرة ليمثل قمة ألمها و أقصى تعاستها؟
هي التي ظنت أن حياتها بخير حال، و ظنت أنه لا
يوجد ما يمكن أن يعكر صفوها، و كانت تظن أنه
لا يقلب حياة الناس رأساً على عقب سوى الحرب. كم ظنت و ظنت، و كم خاب ظنُها!
فسماح هي الابنة الصغرى لعائلة متوسطة الحال، نشأت في حي شعبي بالقاهرة. كانت من
سعيدات الحظ - أو هكذا أيضاً ظنت- عندما أتتها
ماتصورته فرصة عمرها في صورة عقد عمل في الخليج منذ قرابة الخمسة و عشرين عاما. ربع قرنٍ مضى، ياللهول! كيف انقضى؟ كيف كانت و
كيف أصبحت، و كيف ستكون
بعد السفر؟!.
جلست سماح على مقعدها المفضل في
صالة بيتها قبيل الظهيرة، بعد أن عادت مبكرة من عملها - كما هو الحال مؤخراً - بعد
استلامها قرار إنهاء خدماتها بالعمل نتيجة تداعي الأوضاع الاقتصادية، حاولت خلالها
البحث عن عمل آخر و لم تفلح، و
لم يعد لديها سوى التسليم بالقدر. و هل من مفرٍ من قدر! أشعلت
سيجارة مع فنجان من القهوة التركي سكر زيادة كما تفضلها، و أخذت ترقب الدخان المنبعث من سيجارتها وهي تنظر في
اللاشيء. ثم بدا شريط الذكريات يلوح قبالتها
فاستسلمت له، و راحت تستعيد أحداثَ ربع قرنٍ مضى، و كأنه حدث بالأمس.
في بداية رحلتها للخليج، كانت امرأة شابة في أوج
نضارتها و جمالها، و قمة استعدادها و طموحها لبدء حياة جديدة تنعم فيها بالملذات
التي حرمت منها، و تعوض فيها إخفاقاتها العاطفية، و مشاريع الارتباط الفاشلة التي
كانت القدرات المادية لمن أحبته – و حتى لمن تقدم بعده – حجر عثرة في سبيل إتمامها.
و مع التأثير السلبي المتزايد لتلك الإخفاقات؛ قررت أن تستغل الفرصة السانحة لتكون سيدة حياتها، تسوقها
كما تريد، بغير حاجة لرجل تحُول قدرته على تحقيق أحلامها. و هكذا بدأت
حياتها الجديدة، بمنزل مناسب خاص بها، و وظيفة بمرتب شهري يكفي توفير العديد من
أحلامها و يزيد، و يؤَمّن أيضاً إرسال بعض المساعدات المادية لأهلها شهرياً. ثم
تزوجت سماح، شاباً من عمرها تعرفت عليه بعملها، و أنجبا ولداً و بنتا، و ظنت – و
كم خاب ظنها!- أن الحياة أقبلت عليها، قبل أن تتبدل الأمور سريعاً.
فبالإضافة لطبيعتها المرهفة و عاطفتها الجياشة،
كانت سماح تتعلق بالأشخاص و تنتمي للأماكن و ترتبط بالأشياء. تعشق الحياة و تحن
للماضي و تحسن الظن بالناس، و لهذا كله، فهي سهلة الكسر! فانكسرت في أول خلاف جَدي
مع زوجها، تأكدت بعده أنه ليس الشخص الذي تصورته، فتطلب الطلاق و تصر عليه رغم
محاولات المعارف و الأصدقاء لعودة المياه لمجاريها. لكن هل يُمكن لمياه خرجت عن
مجراها أن تعود؟ بالطبع لا! فالمجرى يحتاج لضخ مياه جديدة، أو كما يقال دماء
جديدة!.
و تحصل بالفعل على الطلاق و تحتفظ بأبنائها، و
تقرر عدم تكرار التجربة، فتكرس حياتها و مواردها و طاقتها لأبنائها فقط. و تمر
الأيام، و ليس لديها سوى عملها و أبنائها، و كفى. أجادت في عملها و نالت ثقة
رؤسائها، و كافحت في تربية أبنائها و توطدت علاقتها بهما، و صرفت كثيراً على
تعليمهما في ظل امتناع زوجها السابق عن المساعدة، و اجتهدت معهما، فتخرّج ابنها
أحمد من إحدى الجامعات الخاصة و حصل على عمل
مناسب، ثم تزوج و انتقل لشقة صغيرة مع عروسته، و استراحت لفكرة أنه وضع قدماً على
الطريق الصحيح. و تبقى لها ابنتها الصغرى دعاء، التي مازالت تسكن معها و مستمرة في
دراستها الجامعية، و كانت تأمل في استكمالها و هي مازالت تعمل، و لكنه القدر!.
و على عكس سخونة أحداث الذكريات، شعرت ببرودة
القهوة تتسلل إلي أصابعها، فتناولت ما تبقى في رشفة واحدة، ثم التقطت ألبوم الصور
الملقى بجوارها منذ عدة أيام، و شرعت في تقليب صفحاته بعناية، لتشاهد صوره من
البداية، برَوية، كما تفعل في كل مرة، و كأنما تشاهدها لأول مرة.
هنا تضحك في حفل عيد ميلاد أحمد
عندما أتم العاشرة، وهنا دعاء تمتطي مُهراً صغيراً و لا
تستطيع أن تخفي علامات ذعرها، و هنا حفل تخرجها من المدرسة، و هنا صورة تجمعهم في
حديقة الفندق أثناء عطلة العيد، و هنا... و هنا... وهنا...! ثم أمسكت عن استكمال
رحلتها المضنية عندما انسلت دمعة من عينها و استقرت أمامها، لتكتفي بهذا القدر و
تغلق صفحة الذكريات. و تعتدل في جلستها و كأنها تحاول استعادة نفسها.
ثرية كانت حياتها، أو هكذا ظلت تقنع نفسها لتبعد
عنها شبهة خوائها، و واقع فراغها، و حقيقة عظيم معاناتها في خوضها بلا رجل. و هل
تثرى الحياةُ بلا رجل؟!
أفاقت سماح من شرودها على دق
الباب، تذكرت أنها لابد نهلة، جارتها الشامية التي تعرفت عليها منذ سنوات طويلة
عقب انتقالها للشقة المقابلة، ثم لم يمر وقت طويل حتى توثقت علاقتها بها بعد أن
وجدت فيها الصديقة التي لم تجدها ضمن معارف العمل المرموقات. كانت نهلة ناصحتها الأمينة و حافظة
أسرارها و محل ثقتها، منها تعلمت دروساً هامة في التعامل مع الناس و الأحداث، و
حتى في فنون الطبخ الشامي الشهي و حلوياته اللذيذة، و بصحبتها قضت أجمل الأوقات.
لم تفارقها نهلة في الآونة
الأخيرة، هي تعي تماماً ما تعانيه، و
تشفق عليها، كما تشفق على نفسها فراقها المحتوم.
استقبلتها سماح بحفاوة زائدة، و ألقت نفسها
بين أحضانها كأنها لم ترها منذ زمن، و بدورها بادلتها
نهلة العناق، خاصة عندما لاحظت انتفاخ عينيها من أثر البكاء، و هتفت قائلة "ليك تؤبريني حياتي ليش ها البُكا؟ والله ما في
شي بها الدِني بيسوَى دَمعا من عيونك" و ربتت على ظهرها و هي لا تدري أهي تواسيها
أم تبكي عليها.
وبعد أن استعادت جأشها، أعدت سماح
كوبان من الشاي الأخضر الذي تفضله نهلة، و جلستا لمراجعة الإجراءات المطلوبة قبل موعد السفر، أخرجت نهلة من حقيبتها ورقة كانت أعدتها لهذا الغرض، و
أخذت تتلو على سماح ما ينبغي عمله في الأيام القادمة؛
مابين البحث عن مشترٍ للسيارة و بعض الأثاث و
شحن البعض الآخر، و ربما شحن كل الأثاث في حال عدم الحصول على سعر مناسب. و
بينما تسترسل نهلة، كانت سماح تجول بعينيها في البيت
غير مستوعبة تماماً لما تسمعه. هناك إنهاء المعاملات القانونية لإلغاء الإقامة و
السفر النهائي، دفع فواتير الكهرباء و إحضار براءة ذمة و خلافه، و
هناك أيضاً البحث عن نجار لفك غرف النوم و
الطعام، و البحث عن
من يأخذ النباتات، و عمل إعلانا لبيع الأجهزة
الإلكترونية و أجهزة المطبخ، و نزع اللوحات من حوائطها، و فك الستائر،
و فرز مافي الخزائن و الأدراج لشحن ماهو مفيد و التخلص مما
يزيد، و...
وهنا هبت سماح واقفة و هي تصيح "أنا مش ح ارمي ولا حتة قصقوصة في الزبالة ولا ح
ابيع أي حاجة، كل زرار مالوش لازمة في البيت ح اخده معايا!" ثم انهمرت في
البكاء.
كانت سماح ترى في نفسها المرأة
القوية، أو هكذا ظنت! فقد تكبدت في حياتها خسارات وعبرت تجارب صعبة خرجت منها أقوى
مما كانت، بيد أنها باتت تتيقن أن هذه الخسارة قد لا يمكن تجاوزها، ها قد ظهر الآن شقاءها
جلياً، فلم يكن قلقهل بسبب المستقبل المجهول في وطن لم تعد تعتاده، بل هو الماضي
المسلوب من وطنٍ احتضنها و حياةٍ احتوتها. ما
أشقاها الآن، حين وقفت في مسكنها تتفحص عيناها كل
ركنٍ به، كل زاوية لها معها ذكرى، كل مقعد لها معه حياة، كل فراش كان لها وطن، كيف
ستترك ذكرياتها و حياتها و وطنها رغماً عنها و
ترحل بغير عودة؟!
انقضت أسابيع، لم تفارقها نهلة،
اشتركت معها في كل تفصيلة، و استمرت في نصحها و
محاولة إقناعها أن تعيش اليوم من أجل غدٍ سوف يحمل
لها أحداثاً و يصنع لها ذكريات تمحو ذكرياتها
القديمة، و أنها لابد أن تمضي في حياتها و
لا تنظر خلفها، فنظرة الوداع الأخيرة بكل عنفها و
قسوتها هي ما تبقى في الذاكرة للأبد، فباعت ما باعت،
و رمت مارمت، بغير حولٍ لها و لا قوة، و أذعنت لما أمر به
القدر.
حينما حلت لحظة الرحيل المحتومة، و بينما تتمسك بيد ابنتها
كأنها تستند عليها، و بدون وعيٍ منها، حانت
منها التفاتة للخلف، لتُلقي على أطلال وطنها الذي تتركه للأبد؛ نظرة أخيرة!.