المشاركة رقم 58
هناك أفضل
بقلم/ أحمد فؤاد محمد الهادي ـ مصر
لم يبق على جسده سوى سروال يستر عورته، و لولا بقايا عقله المتناثرة في جمجمته لأطاح به كما أطاح بكل شيء، اختار رصيف الشارع بديلا عن الشقة التي دفع فيها و في تجهيزها شقاء سنوات طوال من عمره، لم تمنعه حرارة الأسفلت و لا لهيب الشمس من أن يسير حافي القدمين بطول الشارع ذهابا و عودة دون غاية يعرفها، لعله كان يريد تأكيدا مستمرا لفوزه بالحرية، و أنه قد فر من الضيق إلى الرحابة، لا يتلفت يمينا و لا يسارا و هو يعبر بين ضفتي الشارع، عندما يتملكه الإعياء، يرتمي بلا وعي على الرصيف و ينتابه البكاء، و يتجمع حوله المارة فلا يشعر بوجودهم، فقد فر إلى عالمه الخاص و ترك لهم عالمهم.
طفل صغير أفلت من يد أمه التي استوقفها مهانة الرجل، اقترب حتى استطاع أن يدرك ظهره بكفه الصغير، ربت عليه:
- معلش ياجدو... أنا هاخلي ماما تجيب لك شيكولاته... متعيطش.
و كأن الرجل لم يسمع من ضجيج الكون سوى كلمات هذا الصغير، فالتفت إليه و لمح في عينيه دموعا لم يذرفها أي ممن أضاع عمره في إسعادهم، تمنى أن يضمه إلى صدره، و لكنه أشفق عليه مما علق بجسده من غبار معجون بالعرق المتراكم منذ عدة أيام، تذكر أحفاده الخمسة و تعلقهم به، و حبه المفرط لهم، رأى وجوهههم تظهر على وجه الطفل فيراه حفيدا يبتسم له ثم لا يلبث أن يغيب ليحل محله حفيد آخر.
في الليل، تتجمع القطط الضالة لتنبش في كومة القمامة المجاورة لجلسته، فتأخذ كل اهتمامه، فقد أصبح يعرفها جميعا، بل قد رسخ في ذهنه صورة لطباع و شخصية كل منها، فوجد فيهم نماذج مشابهة لنماذج البشر: فهذا قط طيب لا يمد فمه إلى طعام فاز به غيره، بل يذهب في سلام ليبحث لنفسه عن طعام آخر، و هذا قط بلطجي شرس ينشب مخالبه بلا رحمة في جسد قط حصل على طعام مميز، فيطيح به و يلتهم طعامه بشراسة في لمح البصر ثم يستدير ليبحث عن غيره، و هذا قط صغير ماتت أمه تحت عجلات السيارات المسرعة، يئن جوعا، و ليس في القمامة ما يصلح لطعامه، كان الرجل يعبث بالقمامة حتى يجد أكياسا أو علبا من تلك التي يباع فيها الحليب فيحمل الصغير و يقطر في فمه من بقاياها النادرة. ظل على حاله حتى تعلم من القطط أن يأكل من القمامة، لم يعد يجد في ذلك غضاضة و لا قرفا.
خذلوه، ضنوا عليه حتى بالكلمات، صَدَّقوا من تَجْلِدَه و تَجْلَدَهُم فيما تدعي و هم يعلمون بكذبها، جاملوها و شروا سكوتها و دفعوا حياته ثمنا، صعدوا على جسده المغمور في الهموم ليتنفسوا حتى غرق هما و غما، أعطاهم كل شيء و لم يبق لنفسه شيئا، اختلق لهم الأعذار بعد أن استكثر جحودهم و رفض أن يصدق الحقيقة حتى نمت مخالبها و استعرت نيرانها و فرضت نفسها على خياله الطيب فقتلت الصبر و مثلت بجثته و علقته مشوها أمام عينيه، فر من كل شئ حتى من ثيابه، استأنس بالقطط و الكلاب الضالة، و وجد سعادته في قطة تتمسح بجسده العفن أو كلب يهز له ذيله حبا و امتنانا.
طال شعر لحيته حتى بلغ صدره، و كسا شعر شاربه شفتيه و شعث شعر رأسه الأبيض المتناثر بلا انتظام في فروة رأسه الصلعاء، و اسود جلده و برزت عروقه و جحظت عيناه و احمر بياضهما و انحنى ظهره و ارتعشت أصابعه؛ حتى صار كمن بعث من قبر بعد ألف سنة مكثها فيه.
لم يمت الكاتب و لا الأديب و لا الفنان بداخله، ما زلت آلة الإبداع تعمل بالفطرة كما كانت دائما، فتولد الكلمات و تنمو و تتشابك في مقالات و قصص و أشعار تدور برأسه بحثا عن ثقب تنفذ منه إلى العالم الخارجي، لا قلم و لا ورقة و لا محبرة، لم يحاول أن يمنع الكلمات عندما بدأت تنساب من بين شفتيه، و لاحظه المارة بل و اقترب منه بعضهم متنصتا على هذه اللغة العربية الراقية التي يحكي بها قصصا أو يلقي بها شعرا، و كثيرا ما خرج صوته و قد خنق بالبكاء و اختلطت الحروف بالدموع، ذاع صيته و أصبح له جمهور يلتف حوله و يسجل أعماله بصوته، ظهرت صوره في المجلات و الصحف الأدبية على رأس كتابات من إبداعه، الصحيفة الملقاة على مكتب رئيس الحي تتصدر صفحتها الأولى صورة الكاتب المشرد و تحتها عنوان ضخم: "أديب الرصيف يحتاج إلى رغيف"، ما أن قرأ رئيس الحي تلك الكلمات و اكتشف أن المقصود هو هذا الملقى على أحد أرصفة الحي منذ حوالي عام، حتى ارتجف و توقع هجوم فلول من رجال الإعلام إلى المكان لتصبح فضيحة للحي و رئيسه، أصدر أوامره أن تتوجه سيارات البلدية و معها سيارة إسعاف لرفع هذا المخلوق و إيداعه أي مستشفى لو حتى كان للأمراض العقلية.
عندما وصلت سيارات الحي إلى الرصيف الثقافي، كان العشرات مصطفين جلوسا على الرصيف أمام الرجل منهمكون في كتابة و تسجيل ثمار فكره و قريحته، و طاقم من القناة الثقافية ينقل الجلسة على الهواء في حدث لم يشهده العالم من قبل. لم يجرؤ أى من ذبانية الحي من الاقتراب، و فرض الموقف عليهم إجلالا ليس من طباعهم أن يعيشوه.
في المساء، أعادت القناة إذاعة الندوة و قد استضافت اثنين من كبار الأدباء و ناقدا أدبيا و اثنين من أصحاب دور النشر و مندوبا عن وزارة الثقافة و رئيس هيئة الكتاب، كان الكل منبهرا بأدب الرجل و فكره و أسلوبه في شتى الأجناس الأدبية التي قدمها، بل أنهم رأوا فيها أعمالا تضارع علامات مشهود لها في الأدب العربي، بل و العالمي أيضا، تحدث رئيس هيئة الكتاب:
- إنني أرى ثروة ثقافية يحتم عليَّ ضميري أن أحفظها و أن أصدرها كتبا يقرأها الجميع، و لكن الرجل يخفي اسمه و يرفض البوح بكنهه، و عمل كهذا يتطلب توقيع عقود و حقوق مادية و أدبية، و أنا أطالب و أرجو ممن يعرف شيئا عن الرجل أن يساعدنا فيما نصبوا إليه.
كان الرجل حريصا أن يكتم سره و لا يبوح بإسمه و لا هويته، كان حريصا ألا يرسل لهم رسالة خزي أو مايقلل من قدرهم، ما زال قلبه نقيا، كان مستغرقا في النوم ملتصقا بصندوق القمامة تدفئه أنفاس قطط تعرفه و تحبه، بينما جلس أبناؤه و أزواجهم و أبناؤهم و "الهانم" يشاهدون الحلقة و يتبادلون الأكاذيب و يناقشون المخاوف ثم يرسون جميعا على شاطئ الأطماع، فهذا الشبح الأشعث من الممكن أن يصبح ثريا في غضون فترة وجيزة إذا نشرت أعماله و استضافته القنوات، و ليس بعيدا أن يحصد جوائز تدر عليه آلاف الجنيهات بل و الدولارات أيضا، قال ابنه الأكبر:
- سيبوا لي الموضوع ده .. أنا ها تصل بالقناه و أرتب حلقة مع نفس الضيوف و أكشف فيها السر.
ردت أمه بنبرة صوتها الحادة الكريهة:
- يبقى نهارك أسود .. أنت اتجننت؟ الناس تقول علينا إيه؟ رميناه للكلاب و دلوقتي بنتمسح فيه؟
- أنتي فاكراني عبيط يعني و مش فاهم؟ بكره تشوفيني هاعمل ده ازاي...
ردت ابنته التي كانت تتابع كل شيء في صمت:
- ظلمتوه... و لسه عايزين تظلموه... منكم لله.
لم يلتفت أحد إلى كلام المسكينة التي كانت أقربهم من قلب أبيها هي و أختها التي تصغرها بعامين، كانت تدرك كل الحقائق و تعلم تماما كم أن أمها محركا لكل المآسي التي عاشوها، و كيف كان أسلوبها القهري مع الجميع سببا في أن سجنت نفسها في صدرها، و مر شريط الذكريات أمام عينيها فرأت كيف كان أبوها رقيقا حتى مع قطتها، انكفأت تبكي في صمت و هي مكبلة بهذا القهر الأبدي.
عندما دارت الكاميرات في الاستوديو، بدا المذيع مستبشرا متهللا و هو يقدم الإبن الأكبر الذي سيفجر المفاجأة و يكشف سر رجل الرصيف الأديب ذائع الصيت، و جالت الكاميرا بوجوه الضيوف فبدا عليهم جميعا شدة الترقب و الحماس حتى استقر المخرج على وجه الإبن و قربه ليملأ معظم الشاشة و يبدأ حديثه:
- لعلكم جميعا تنبهرون بما يقدم عليه الأمريكيون و الأوروبيون من مغامرات بحثا عن الحقيقة معرضين حياتهم للعديد من الأخطار، و لكن شغفهم بالعلم و البحث عن الحقائق يكون دائما أقوى من الشعور بالخوف، و هذا الرجل الذي رأيتموه أشعثا أغبرا و أبهركم بثروته الأدبية الكامنة في صدره، لم يفعل إلا كهؤلاء العظماء، فقد كان كاتبا مغمورا شغلته الأحاسيس و مكنون الصدور فغاص في نفوس الناس و رسم ما يجول بخواطرهم بدقة من يراها، فلما زاد شغفه قرر أن يتجرد من نفسه وأن يهيم بينهم و كأنه ليس منهم و يرى و يرصد عالمهم من عالم خاص لا يرونه فيه بينما يراهم هو و لايشغله عنهم ولد و لا بنت أو حتى طعام أو شراب، فكرة تبدو أقرب إلى الجنون، و لكنه فعلها، و لم يكن أمامنا سوى متابعته عن بعد و انتظار النتائج، و ها هي تظهر جلية أمامكم، أدب جديد في كل شيء، رؤية جديدة جعلتكم تشعرون بأنكم ترون الأشياء لأول مرة، يشرفني أن أعلن لكم و للجميع أن هذا الرجل الصلب صاحب الإرادة الحديدية هو... أبي.
ما أن نطقها حتى اندفع إليه كل من بالاستوديو يقبلونه و يشدون على يده في حرارة، حتى العاملون خلف الكاميرات تركوا مواقعهم و ظهروا على الشاشة و هم ينالون هذا الشرف.
كادت أمه أن تطير فرحا و هي تتابع ابنها و اطمأنت أنه قد ورث عنها لؤمها و سوء طويتها و لم يعد فيه عيبا سوى أنه لا يحمل اسم عائلتها.
عندما اجتمع المثقفون على الرصيف و اصطفوا جلوسا أمام الرجل في اليوم التالي، تعلقت عينا الرجل بالسماء و تحركت شفتاه و كأنه يخاطب عالما لا يرونه، و لكنه في هذه المرة بدأ في سرد حكاية عن رجل من طراز مختلف لم يعهدوه، فلما تمادى في حكيه، شك كل الحضور في أنه يحكي حكايته لأول مرة، حتى إذا ما قترب من نسج النهاية تيقنوا تماما أنه هو من يحكي عنه، فلما ختم روايته، نظر إليهم فشعر كل واحد منهم أنه يكلمه هو فقط:
- أشهدكم أنني أهب كل أعمالي إلى (جمعية القلب الطيب الخيرية) لتقيم الندوات و تعطي الدروس و تعلم الناس الحب و الوفاء و الرحمة ما أمكنها ذلك، فكلها هبات من الله و رزق مكتوب، فلينشر من ينشر و لكن بموافقة هذه الجمعية فهي من الآن صاحبة كل الحقوق.
و استدار في جلسته ليواجههم بظهره، و كأنه وضع حملا ثقيلا عن كاهله، فتمدد بجوار صندوق القمامة و راح في نوم عميق.
جن جنون الولد و أمه عندما نشرت الجرائد خبر تنازل الرجل للجمعية الأهلية بشهادة كل الحضور، و ثارت ثورة الهانم و تناثرت السباب و اللعنات في كل اتجاه، و انسحبت الإبنة في صمت و قد قررت أن تذهب لأول مرة إلى حيث يربض أبوها وسط القمامة، فما أن اقتربت من المكان حتى شاهدت جمعا غفيرا من الناس اختفى وسطهم المشهد كله، أسرعت إلى حيث يلتف الناس، أصابت الكلمات و التعبيرات رأسها و قلبها و هم يعددون محاسن الرجل الذي وجدوه ميتا هذا الصباح، و أصوات من يقترحون إبلاغ الشرطة و من يصر أن يدفن عنده، و منهم من صاح بأن ابنه قد ظهر في التلفزيون و كشف شخصيته و لا بد أن أهله سيحضرون عندما يصلهم الخبر.
شقت الطريق وسط زحامهم في مشقة بالغة، لم يدرك أحد أنها ابنته حتى وجدوها ترتمي عليه غير عابئة بحالته و هي تنتحب:
- ظلموك و ظلمتك معاهم... قتلوك يا أغلى أب.
جلست إلى جواره، و هي لا تستطيع أن تنظر إلى وجهه خجلا من تقصيرها في حقه، فلما حملوه في رحلته الأخيرة، لم يستطع أحد أن يصرفها من المكان، و ما زالت هناك، تستر نفسها باغطية قديمة جاد عليها بها الجيران، و قد تحجرت ابتسامة على وجهها، و انقطعت كل صلاتها بالعالم، و ها هي تروي في أسلوب شيق و لغة راقية قصة أبيها كما عاشتها هي، و قصص أخرى كان يحكيها لها و لم تكن تدرك معنى الكثير منها وقتها، أما الآن فقد أدركت كل المعاني، و صار الندم ينهش قلبها، و مازالت ندوات الرصيف عامرة.