المشاركة رقم 60
ترويض
بقلم/ أحمد حمدى الاشهب ـ مصر
"أتعرف يا صديقي الوسيم أنك الوحيد الذى يسمعني!؛ ليتك تتحدث و تخبرني برأيك فيما أحكيه لك؛ حتى أمي التي ظلت طوال حياتها تلقننى الكلمات تلو الكلمات و تحكي لي قصص أبي و أجدادي الذين لم أرهم و كانت تنتظر ذلك اليوم الذى أجلس فيه قبالتها و أحكي لها عن أحلامي و عما يدور من أحداث في يوم عملي الطويل، كانت تنتظر أن أصير سندا و أنيسا لها في كبرها... أمي الطيبة الحنون أظنها منذ فترة لم تعد تنتبه لسنوات العمر التي مرت بسرعة مثلما مرت تلك السيارة الطائشة التي دهست أبي و أودت بحياته...
أمي التي كانت تبتهج فرحا و ترقص حينما كنت أنطق كلماتي الأولى لم يعد بوسعها الآن أن تسمعني؛ أمي التي كانت أفراح الجيران ترتج بغنائها الريفي و صوتها الرنان ترقد أغلب الوقت في سكون تام لا تكاد تقوى على الكلام، على نحو مفاجئ ذبلت ملامحها و أنطفأت عيناها البراقتان، أصبحت لا أفهم نظرتها الجديدة التي تصوبها لعينيَّ مباشرة و ربما كنت أخشى ما وراءها؛ أصبحت في كل لحظة أنتظر المجهول... الآن يا صديقي لن أخبرها أنني لم آكل شيئا منذ الصباح و لن أخبرها أن الإسكافى طردني دون أن يعطيني أجري و أن هذا الحقير ضربني و أدمى رأسي عندما أنكرت سرقته، و أنا ورب الكعبة لم أسرقة و لم أسرق أحدا من قبل و لا حتى فكرت في هذا أبدا."
كان يجلس مقرفصا على مقربة من أحد محال الملابس بشارع رئيسي كبير يضج بزحام المارة و الباعة الجائلين، ينظر إلى الشمس المختبأة خلف الغيوم مثلما خبا وجه أمه المشرق خلف غيوم المرض و ما بين لحظة و أخرى تهرب الدموع من عينيه رغما عنه فيمسحها بظهر يديه و يتنهد ثم يعاود النظر للسماء متأملا حركة السحب الرمادية الملبدة... كان ثمة صف كبير من المطاعم التي تتصاعد أدخنتها الكثيفة لأعلى لتصنع غيوما أخرى كئيبة و تفوح أبخرة الأطعمة المطهية و الأسماك و اللحوم المشوية للتو لتستفز أنفه و أنوف الجوعى بينما يزدحم الزبائن داخلها و يقف أمامها صفين طويلين من السيارت، فتش جيوبه أملا في العثور على أي نقود دون جدوى، قبل أن يعود إلى حواره الصامت:
"صحيح أنني أسكن مع أمي في غرفة حقيرة فوق سطح ذلك البيت الرمادي البائس الذي يعلو المخبز، غرفة معرشة ببعض قطع و جذوع الخشب القديمة تغطيها لافتات الانتخابات التي طبعت عليها صور باشوات البلد، و كنا نجدد بها سقف غرفتنا مع كل موسم انتخابات و كانت تحمد الله على ذلك كثيرا و تخبرني أنها لا تتخيل كيف كنا سنعيش في هذي الغرفة دون هذه اللافتات التي نتحصل عليها بمبالغ زهيدة بينما هناك مساكين كثر ليس لديهم مثل هذه اللافتات يضطرون للعيش تحت أسقف هشة فيغرقهم المطر، كانت دائما تدعو الله أن يديم علينا هذه النعمة الكبيرة التي تقينا من المطر و البرد، و كنت دائما ـ و مع اتساع رؤيتي للحياة و البشر ـ أتعجب من ذلك الرضا الغريب و الإيمان الراسخ و القناعة التي لا تهتز.
صحيح أنني قضيت قرابة العشرة أعوام أتبول في صفيحة صدأة و أستحم فى طست نحاسي حتى أشفق علينا أحد الجيران و صنع لنا حماما صغيرا في زاوية على السطح، و صحيح أن حياتي وضيعة و ثيابى مرقعة و حذائى بالي... و صحيح أنني الآن جائع، بل أتضور جوعا إذ أكاد أرى الجوع أمامي يزأر فاغرا فاه، كاشفا عن أنيابه السوداء و يسيل لعابه مشرعا في التهامي، لكن أهون على أن أموت جوعا و لا يقال أنني سرقت.
كنت أجوع كثيرا و كنت أشبع أيضا دون طعام؛ ألا تصدق؟!. ..والله دون طعام!
أجوع و أتعذب قرابة الساعة و لا أجد في النهاية سوى بضعة لقيمات جافة مختبئة تحت طيات الحصيرة المتآكلة يرشدني إليها أحيانا فأر جائع عندما يدس رأسه تحتها بخفه و يظل يقضم منها بتلذذ، و إن لم أجد شيئا فليس أمامي من سبيل إلا الصيام، لحين توفر الطعام، و كانت أمي في معظم الأحيان تتعمد ذلك في قرارة نفسها كي أتعود على قسوة الحياة فتطمئن عليَّ إن حدث لها مكروها، كانت تعلمني كيف أروض ذلك الوحش الضاري و أتقي شراسته و ألا أضعف أمامه حتى يصبح على نحو ما مستأنسا أليفا فلا يفترسني أبدا و كنت أضربه بسياط الصوم الذي كنت أتعبد به الى الله...
علمتني أمي أن اليأس قاتل و أن العمل هو ذلك السيف الذي أهزم به جوعي و ربما نستطيع أن نأكل ذات يوم بعض ما نشتهي؛ كنت في البداية أضيق ببقايا الخبز الجاف؛ فأصرخ في وجه أمي و أتمرد لكنني بمرور الوقت أدركت أنني لست وحدي الذي أعاني الجوع في هذا العالم و أن في الحياة ما هو أصعب من الجوع كمرض أمي مثلا، حتي أصبحت أتلذذ ببقايا الخبز الجاف.
لقد أصبح الجوع عندي من طقوس الحياة المعتادة و تعلمت أنه من الشرف أن أتحمل الجوع و لا أسرق؛ كنت آكل الخبز وحده أحيانا و أحيانا أخرى مع الفول و البطاطس حينما تكون رخيصة الثمن و كانت أمي تتفنن في طهي الفول فتارة تطهوه بالطماطم و تارة بالبصل و تارة أخرى بالبيض و بالمثل تطهو البطاطس... حتى عملت مع ذلك الإسكافي، الآن أدركت يا صديقي كيف كنت أشبع دون طعام! كنت أشبع بأنفاس أمي و صوتها الحنون الذي غيبه المرض... لقد أخبرنا الطبيب أنها مصابة بالفيروس الكبدي الوبائي و أن حالتها متأخرة، و يجب علاجها فورا و هو ما سيتكلف مبالغ طائلة و حين سألناه إن كان متاحا صرف العلاج من التأمين الصحى مثلما أخبرنا البعض؛ أجاب بأن حالتها لا تحتمل الانتظار قرابة الستة أشهر حتى يحين دورها في الحجز".
يقف لأول مرة مصوبا نظراته لعين التمثال القابع خلف زجاج المحل و الذي كان يفضي إليه بأسراره دوما.
" أعلم أنني لو كنت تمثالاً مثلك لوقفت هكذا جامداً بلا حراك، مجرد قطعة بلاستيكية صماء تشبه البشر، لكنني على الأقل سأظل دائما ممشط الشعر، مبتسمًا، أرتدي ثيابًا نظيفة مبهجة، و لن يستطيع ذلك الإسكافي اللعين التنكيل بي و سيكف ذلك العالم الأحمق عن احتقاري، بل سينظر لي بكل انبهار، أتعلم يا صديقي لو كنت مكانك حقًا لما شعرت مثلما أشعر الآن بالجوع ينشب مخالبه السوداء في صدري العاري و لما ملكت قلبا داميا موجوعا مثل قلبي الموجوع على أمي "
تنهد في أسى ثم راح يفتش جيوبه مجددا فلم يعثر على شيء؛ دخل المسجد توضأ و صلى، و أثناء تواجده في المسجد تذكر أنه لم يفتش أحد الجيوب الصغيرة ببنطاله، دس سبابته فيه فعثر على جنيه فضي؛ ابتسم متحسرا على حاله، ثم حمد الله و فكر أن يشتري رغيفا و قطعة جب؛ اقترب من المخبز الذي تفوح منه رائحة المخبوزات الطازجة و تردد قليلا قبل أن يرمق شيئا برتقاليا و تلمع في ذهنه فكرة... مضت ثوان قليلة قبل أن يجد نفسه يلتفت مناديا على أحد الباعة و يشتري منه فوطة برتقالية، لم يضيع وقتا و انكب بحماس على السيارات التي يوشك أصحابها على المغادرة ليمسحها بإتقان فيأخذ جنيها من هذا و اثنين من ذاك و يعود إليه الأمل من جديد... مضت دقائق قبل أن يلمح شابا بين الزحام يراقب بحذر سيدة في العقد الرابع تهم بالنزول من سيارتها الفارهة، كان الشاب طويلا فظ الملامح ذا وجه أسمر باهت ممتلئ بالندوب، تابعه الصبي باهتمام متوقعا سوء نواياه في نفس اللحظة التي فوجئ فيها بقبضة يد تندفع نحوه من الخلف و تمسك بتلابيبه بعنف ـ كان صاحبها يمسك بقبضتة الأخرى فوطة برتقالية ـ راح يسبه بأمه و ما كاد ينظر نحو من هاجمه و يفهم من كلامه أنه قد تعدى على حرم (أكل عيشه) حتى سمع صراخا انثويا؛ فيلتفت نحو السيدة من جديد ليجد الشاب الأسمر الطويل قد التقط بخفة هاتفا محمولا من داخل سيارتها الفارهة و راح يعدو مسرعا؛ لم يتردد لحظة بل نزع بقوة يد الصبي التي كانت تمسك بتلابيبه و طفق يعدو مسرعا خلف اللص بكل ما أوتي من قوة، ينقض عليه من الخلف محاولا عرقلته فيضربه اللص بقوة عدة لكمات فيدمي وجهه و يطرحه أرضا في الوقت الذي كانت فيه السيدة صاحبة الهاتف و معها شابين آخرين قد لحقوا باللص و أشبعوه ضربا قبل أن يستعيدوا منه الهاتف؛ تعود إليه السيدة لتشكره و تبدي له امتنانا كبيرا و تعرض عليه مالا نظير شهامته فيرفض بحزم؛ تخبره أنها تود أن تنقله إلى إحدى المستشفيات لتلقى العلاج إثر الإصابة التي لحقت بوجهه؛ يرفض أيضا؛ تخبره بأنها طبيبه و أن عليه أن يمتثل للذهاب للمشفى و علاج وجهه المتورم فيصر على رفضه؛ تطلب منه أن تقوم بايصاله على الأقل إلى منزله؛ يرفض في بادئ الأمر بعدما يشكرها متعللا بقرب البيت و بأن مثله ممن يسكنون عشة فوق السطح لا يركبون هذه السيارات الفارهة و إنما يمسحونها فقط؛ تصر السيدة؛ يضطر للموافقة في النهاية ـ بعد إلحاحها الشديد ـ في الطريق تخبره أنها أصبحت مدينه له و تسأله إن كانت تستطيع أن تسدي إليه خدمة ما؛ فيطلب منها دون تفكير أن تدعو لأمه المريضة. تخبره أنها طبيبة استشارية في الكبد و تطلب منه نتيجة آخر تحليل أجري لأمه؛ يصعد بسرعة ليحضره لها، تقرأ التقرير ثم تخبره أنها مستعدة لاستقبال أمه بعيادتها للمتابعة و العلاج مجانا؛ يرقص قلب الصبي فرحا، يسألها غير مصدق: بجد عند حضرتك علاج الفيروس الكبدى؟؛ فتومئ الطبيبة برأسها و تبتسم بحماس و هي تعيد الأمل إلى قلبه و يكسو البشر وجهه البائس؛ أعطته بطاقة ورقية بها أرقام هواتفها و عنوان عيادتها فخر الصبي ساجدا لله و انهار باكيا من فرط سعادته التي عادت إليه بعد طول غياب.