المشاركة رقم 32
موسيقى الحداد
بقلم/ عمار وبدان السعدون
لقد مرت السنوات بسرعة، و أصبحت الذكريات هي الطريق الوحيد الذي
أستطيع أن أسلكه إلى الماضي، و رغم امتلاء هذا الدرب بالكثير من المواقع و
المشاهد، إلا أن صورة الحداد، و الموسيقى التي كان يعزفها، ما زالت برنينها هي
الأكثر إلحاحا على مخيلتي.
في بيتنا القديم، كان كل
شيء جميلا، بساطة بناه، و أهله، و منطقته، و عاداته التي فرضها علينا.
حينها كنت طالبا في المراحل
الأولية، و رغم ما كان يمتلك جسدي و روحي من كسل وقتها، إلا أن إصغائي لهذه
الموسيقى؛ أيقظ روحي و أمد جسدي الصغير بالحيوية و النشاط، هذه الموسيقى كانت
تحملني كل يوم إلى عالمي الجديد، حيث الصفات النبيلة من إخلاص و التزام و جهد و
انضباط، و بعد ما مر من زمن ما زلت اتذكر هذا الحداد.
ما تلاشت من ذاكرتي صرخات
أبي، حين يتشاجر كل صباح معه و تعلو أصواتهم، قد يكون السبب هو طبيعة عمل أبي،
الذي يمتد من المساء إلى الصباح؛ فيعود بعدها مرهقا، يلتمس بعض الراحة، بعد سهر
طويل و عمل شاق؛ هل يكون هذا هو السبب الحقيقي وراء غضبه؟ إذا كان الأمر كذلك؛ فهل
من المنطقي أن يحاول أبي، الذي يسهر الليل لكي يحصل على لقمة عيشه، أن يمنع الحداد
من حقه في لقمة العيش أيضا؟!... لا أعتقد أنه كان يوجد من يفكر بتلك الطريقة في
ذلك الزمن الجميل؛ حيث كانت تحاط البيوت، و الأزقة القديمة، بالمحبة و الوئام.
و رغم الإزعاج الذي يجده أبي في موسيقى الحداد، أو كما يسميها ضجيج
الحداد إلا أنني كنت عاشقا لهذا الضجيج، فهو عندي أشبه بسيمفونية لبتهوفن أو
موزارت.
سرقني النوم يوما؛ جاءت أمي مستغربة، تحاول أن توقظني برفق، تنادي
عليَّ بصوت الطيور و ندى الصباح: لقد تأخرت على المدرسة يا حبيبي... أنا لا أحب
المدرسة لهذا الحد الذي تتصوره، إلا أنني أخشى عقاب أستاذي حين أتأخر؛ فيوبخني، و
يضربني، و يتهمني بالإهمال و الكسل.
بعد اليوم الدراسي، عدت إلى البيت كعادتي، بخطوات غير ثابتة، أقف
تارة، و أركض تارة، كنا صغارا؛ لا قيمة للوقت و لا للتقاليد عندنا, فجأة تذكرت صوت
موسيقى الحداد الذي لم أسمعه صباح اليوم؛ فأسرعت أتجلى الأمر، و أبحث عن السبب؛
علمت انه لم يكن موجودا، و أن دكانه القديم مغلق!، لذا تبينت روحي سبب كسلي اليوم
و غفلتي في النوم؛ سألت عنه كل المجاورين من البائعين، لكن لا أحد يعرف شيئا ـ أو
هكذا قالوا ـ فهو حسب رأيهم كان رجلا مزعجا، لم يحبوه و لم يبادلونه السلام
يوما.
احتلت ملامح وجهي علامات الاستغراب و الحيرة، و لجت باب البيت؛ لم أجد
أمي في مكانها المعتاد، جالسة خلف ماكينة الخياطة التي لا تفارقها إلا نادرا،
سألتها بعفوية: أين أبي؟! ـ لعله يعرف شيئا عن الحداد ـ أجابت و السعادة تغمرها:
إنه نائم بسكون بعد أن ارتاح من ضجيج الحداد.
صعقتني الكلمات، و أسقط في يدي:
ـ ماذا تقولين؟! كيف هذا؟! ولمَّ ؟!...
ارتعدت أمي من تأثري، و أجابت بصوت منخفض:
ـ لقد أرغموه على الرحيل، هكذا اتفق أهل الحي مع المختار، وترك دكانة
و رحل.
ترك الحداد هذا الدكان و مضى، آخذا معه موسيقاه، التي كانت مصدر إزعاج
للجميع على ما يبدو، و أنني الوحيد الذي سوف يحضر السمفونية التي يعزفها الحداد في
المسرح، إذا حاول أن يقيم عرضا أو حفلا هناك؛ لن يحضرها غيري أنا و بعض الحدادين.
منذ ذلك اليوم الذي رحل، و أنا استيقظ كل صباح على عزف جديد، و موسيقى
جديدة... تُدعى موسيقى الحياة.