المشاركة رقم 29
( تَبَّة الشَجَرة )
حكايات"جابر عبد السلام"
بقلم/ أيمن عبد السميع حسن حسين ـ مصر
الإهداء: للغالية ابتسام، نوَّارة دارنا...
(0)
في هذا الحي القديم، يقطن ذلك العجوز الذي قرضه الزمن، و لم يُبقِ له إلا تجاعيد مهدَّمة، و ذكريات طويلة من الألم، يتداخل معها نباح بعيد متقطع، الليلة تحركت مواجعه الراكدة - على غفلة منه – و طفحت محاجره بالدمع، حين ارتفع غِناء رخيم، من ثنايا الليل البهيم، فأصغى إليه بحنين موجع، و عندما انفتح الباب نفثت الشقة رائحة زمن عتيق، و أنفاساً محبوسة، يختلط عبقها المخزون بهواء عطن، حتى إذا تنفس الصبحُ، و انتشرت في الأفق تباشير يوم جديد، راح يمسح دموعه، و يستسلم للنوم هادئاً، قرير العين.
(1)
ليلة 30 ديسمبر1973 م: المشهد خارجي و الليلة شتوية، و هم يتجمعون - كما اعتادوا كل ليلة ـ لكن الملل بدأ يتسرب إليهم لكونه قد غاب عنهم، و ما هي إلا لحظات، حتى أقبل أحدهم من بعيد، يرفل في أسماله، و قد تهلل وجهه بالبِشر. و هو يصيح مؤكدا؛ أنه رآه عند الحنفية العمومية قادماً؛ فاستبشر الجالسون خيرا، و قاموا لاستقباله... الليل كان جميلاً، رغم برودته القارصة، اقترب منهم، كان يستند ـ تحت إبطه ـ على عكازين خشبيين:
- سلام عليكم يا شباب...
- وعليكم السلام يا بطل...
كان "جابر عبد السلام" – المُلقَّب بالبطل - لا يتخطى العقد الثالث من عمره، جلس بمساعدتهم، في المكان الذي أعدوه له، يحكي الحكاية؛ فتنحَّى أناس و أعتدل آخرون، امتدت الأصوات تُصْلِح أوضاع الجالسين، و توسّع الحلقة، ثم تلاقت العيون و الأسئلة كلها نحوه، كانت الغبطة بقدومه تغلب علي وجوههم، و "جابر" يوزع عليهم صنوف التحية، تحدث عن يوم الثامن من اكتوبر1973م، وكيف وصلت سارية الدبابات المصرية إلي ( تبة الشجرة ) التي كان يتمركز فيها العدو... و أردف قائلا:
ـ كنت ضمن أفراد الفرقة 16، و عندما صدرت الأوامر من قائد الكتيبة، ركب كل أفراد المشاة الدبابات، كنا نزيد عن 45 فردا، مسلحون بالأسلحة الخفيفة "الأر بي جي" و "الرشاش الخفيف"، اندفعت الدبابات خارج رأس الكوبري المحدد في اتجاه (تبَّة الشجرة) كان الزحف شديدا من ناحيتنا، فبدأ العدو في الانسحاب مستتراً بنيران قوات أخرى، تمكنت القوات المصرية من الاستيلاء على "تبة الشجرة" وفر منها العدو للأبد، تم إجبارهم علي ترك المنطقة بأكملها، بعد قتال شرس استمر 7 ساعات متواصلة، كانت الإصابات منا متفرقة، فقدت فيها ساقي اليسرى..."
فجأة سكت "جابر" عن كلامه، و سكت الناسُ لسكوته؛ فانتصب الصمت كصمت المقابر الموحشة، عندئذ نادى أحد الجالسين، و طلب شاياً لجابر:
- هات شاي للبطل يا معلم...
استطرد جابر كلامه، فقال:
- يا رفاق إن كل حبة رمل من تراب وطننا؛ غالية، تستحق منا كل تضحية، و ساق جابر- أشار إليها- كانت بمثابة بخور طهر و"بسلة"([1]) مباركة تحترق؛ لحفظ وطننا من الحسَّاد والخونة!...
و عندما مضى الليل، مد يده في ود و أدب، مسلما عليهم بحرارة، و هو يُقْسِم عليهم ألا يتعبوا أنفسهم و يقوموا، تحرك متوكئا على عكازيه، ظهرت من تحت ثوبه النظيف الشاهي، قدمه اليمني فقط، و قبل شروق الشمس الجديدة، كانوا جميعاً يودعونه و وجوههم باسمة حالمة، و أطياف من الليل التي مضت؛ تلوّح لهم، و تظل عالقة بخاطرهم، تخفف ما في نهارهم من حدة.
(2)
بعد سنوات طويلة...
انزلق قرص الشمس سريعا، و ثقلت رؤوسنا بالصهد، كان نصف الرِفاق قد رحلوا لدار الحق، و تقلصت جلسات "جابر" معهم...
* الشاب (1):
- لقد سمعنا من أمنا أنك كنت مجنداً بقوات الأمن المركزي، و لم تشارك في الحرب؛ إيه قولك يا جابر (و ابتسم السائل في لؤم).
*الشاب (2):
- والله أنت ضلالي. جابر بطل لا نختلف عليه.
الشاب (3) مخاطبا الشاب (2):
- هدي يا أخينا... هو أنت كنت معاه؟!
ارتفعت الأصوات و تزاحمت؛ شعر "جابر" بغصة و مرارة في حلقة، بسبب هذا الافتراء الجاهل، و الجدل العقيم؛ فترك المكان متوكئا على عكازيه، مخترقا ظلام الحارة الذي لا ينقطع...
(3)
عندما شاخت حكايات "جابر عبد السلام"، قرر أن يرتدي الساق الخشبية التي طالما رفض أن يلبسها؛ و التي ربما تحرمه من متعة سرد الحكايات الجميلة، و صمت عن سردها، فقد كان السفهاء الجدد للجلسة يشككون في كل شيء يقوله.
(4)
في الذكرى العاشرة للاحتفال بنصر أكتوبر المجيد، عُرض فيلما تسجيليا و ثائقياً، كان ضمن مشاهده، صورة حية للبطل "جابر عبد السلام"، و جاء في التعليق: "من الأبطال الفدائيين لمعركة (تبة الشجرة) الذي فقد ساقه اليسرى في تلك المعركة البطل "جابر عبد السلام" ابن محافظة الغربية" ثم ظهرت لقطات من زيارة الرئيس "السادات" للمصابين بالمستشفى العسكري، كانت صورة "جابر عبد السلام" واضحة كل الوضوح، هو يرقد علي سرير المستشفى و الرئيس يحيه بحفاوة و يربت علي كتفه في حنو...
(5)
تسابق المعارضون للاعتذار لـــ"جابر"؛ لكنه تجاهلهم، و لم ينبس ببنت شفة، و راح يمشي على ساقه الصناعية، غير راغب في سرد حكاياته التي طالما عشقها، و أخذ يردد في نفسه:
"أحبتي، أعلم أنكم مللتم حديثي، و كل الذي أرجوه أن تضيفوا لصبركم صبراً علي سماع حكاياتي، جابر، أنت نفسك مللت من سرد حكاية لم يعد الناس يهتمون بها، ربما صدقوها في أوج الحدث، لكن الأجيال الجديدة لا تريد أن تعرف، و إن أرادت؛ فإنها تشك في كل ما هو حقيقي، أنا نفسي لم تعد تبهرني تلك الحكايات كما كان في السابق، رغم كوني عشتها لحظة بلحظة، فكيف يصدقها، أو يشغف بسماعها، من لم يكن معنا"... و ابتسم في مرارة.
(6)
بعد إلحاح - على "جابر عبد السلام" - من أهل الحي، أن يسجل حكاياته تسجيلاً صوتياً على (أشرطة كاسيت)؛ أمسك جابر بـ(المايك) و قبل أن ينطق بكلمة، لفت انتباهه شيء غريب، نظر بتعجب لساقيه الممدودين أمامه، إنه لم يعد يعرف أيهما الطبيعية و أيهما الخشبية؛ فقرر ألا يُكمِل التسجيل لحكايات لم تعد ذاكرته تستوعب صدقها، و بدون سابق تدبير، كان المشهد يتأرجح بين الوهج و الظلام، صمتٌ طويل، و ظلال الغروب تعلو علي (تبة الشجرة) و هي تفرح بسارية العلم المصري، الذي رفرف كثيراً على سكناتها العسكرية؛ فزادت فرحته، و انفرجت أساريره عن ابتسامة ثقة و اعتزاز، عندما لمح جنود الأعداء يهربون كجرذان الحقل، وقت أن زحف عليهم جنود مصر كالسيل الجارف، رغم قلة عددهم...
(7)
ما أن تخطو عقارب الساعة متجاوزة نصف الليل، حتي يتدثر هذا الحي العتيق بصمت رهيب، يقطعه- فجأة - صوت "الكاست" في كل البيوت، يردد حكايات "جابر عبد السلام"...
ــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) كلمة
من الأدب الشعبي ، عبارة عن الملح وحبات من 7 أنواع مختلفة من مثل الأرز والعدس
والفول والحمص والترمس والقمح والحلبة ،
ترش علي الطفل المولود لمنع الحسد.