المشاركة رقم 30
الصدمة المزدوجة
بقلم/ منصف القرطبي ـ المغرب
تسير أمامي، منهكة القوى، يبدو التعب جليا على ملامحها، و كأنّها تخفي شيئا في جيبها، تنظر يمينا و يسارا، تزيل عنها الغبار، تعبر إلى الضفة الأخرى، ألاحقها، أتفقد خطواتها، متتبعا المسار نفسه، عنفوانها منعها من طلب المساعدة، كانت مثيرة للغرابة، لم تنبس ببنت شفة، لم تصرخ طلبا للعون كما تفعل الفتيات غالبا. رغم ذلك، فأنا مصرّ على كشف هذا اللغز المحيّر، لن أتوقف أبدا، حتى و إن تبخترت فتواضعي سينتصر على كبريائها. توقّفت لهنيهة، كأنّها أحست بصوتي الخفيت، كنت أحدّث نفسي، لكن، كيف لها أن تستشعر ذلك؟ هو مونولوج داخلي ليس إلاّ، لم يكن حوارا خارجيا عن كياني الموسوس بسبر أغوار هاته الحسناء التي فتنتني بجمالها العفوي، لا تصنّع، لا مواد تجميل، مظهرها الخارجي لا يشي بجوهرها الداخلي، دميمات الوجه يلبسن ثيابا أفضل صنعا، أما هي فلا داعي للوصف، سروالها ممزق كدفاتري القديمة، حافية القدمين. هرولت من جديد، حينما تأكدت أن لا أحد يطاردها، في صمت رهيب. الساعة تشير إلى الخامسة مساء، الغروب اقترب موعده، الطيور و اللقالق بدأت في رحلة العودة إلى موطنها. كان حريّا بها في هذه اللحظات أن تطلب ودّ أحد المارين، لكنّني فهمت سبب عنادها، فهي كانت تخشى تلك الذئاب المتحولة، ربما يسيء لها أحدهم، عندئذ ستعاني من جروح لا دواء لها.
مع أذان المغرب، اقتربت من القرية التي تجاورنا، تدعى (بالشواوشة)، يقطنها أزيد من ألف عائلة، غالبيتهم من أولئك المروّجين للمخدرات السامة، لا يكاد يخلو منزل من هذه السموم المستوردة من (كتامة) و أروبا، حتى الأطفال هناك مدمنون على التدخين و الحشيش. في تلك الأثناء تدفقت الإشكاليات على ذهني تباعا وبشكل مسترسل، لا أعرف إلى حد الآن، لماذا قصدت هذه القرية تحديدا؟ هل ما ظهر هو الحقيقة بعينها؟ أم أنّ البئر ما زالت تحتفظ بأسرارها الباطنة؟ و مما أقلقني، اتجاهها نحو منزل (سي الحنش)، و من لا يعرفه؟ شخصية خطيرة، من أكبر بائعي المخدرات، و شيخ المنطقة في نفس الوقت. تسمّرت في مكاني لدقائق معدودة، حملت الهاتف، محاولا الاتصال بالشرطة، لا يمكن الصمت على هذه الحماقة اللاّمتناهية. أأمنعها من الدخول؟ خفت أن أوقع بنفسي في مأزق لا مخرج منه، فكان الهاتف سبيلي الوحيد، و للشرطة القدرة على إنقاذ الموقف. ها هو الهاتف الأصم قد فرغ من الشحن، و بذلك افتقدت وسيلتي الوحيدة، ماذا سأفعل الآن يا إلهي؟ في الغالب ستموت هذه الفتاة التي عشقتها من بعيد على الرغم من أنني لم أحدّثها يوما، أحببت فيها البساطة و البهاء الطبيعي. سيصيبها مكروه من أولئك المجرمين، سأندم على عدم تدخلي في الوقت المناسب، سأشكو نفسي إلى نفسها، و لن أنسى هذه الذكرى البائسة، بعد برهة، ظهرت سيّارة لم يسبق لي رؤيتها، لونها غريب، لكن ما هذا؟ تحمل على متنها أشخاصا لهم من الطول و القامة ما جعلني أنبهر، وقفت قرب منزل "الحنش"، خرجوا من بطنها، التفوا حول المكان، طوّقوه. لحظات بعد ذلك، خرجت الفتاة وهي تمسك "بالحنش"، و الإسار يمنع يديه من الحركة. أدخلوه إلى السيّارة، و معه معاونوه مشدودو الأيدي، تلك الفتاة شرطيّة متنكّرة، حينها تيقّنت أن هذا الحبّ بات سرابا، و علمت أنّ الصدمة كانت مزدوجة...