المشاركة رقم 26
في المدرسة
بقلم/ أحمد عيد ـ مصر
في صباح نيساني مُشرق حلّقت في سمائه الطائرات مع الشمس، شَدت البلابل فوق الأغصانِ و غردت معها القنابل، كنا سبعة في الصف الدراسي، لأنهم دفنوا ثامننا بالأمس، فقبل أسبوع كُنا ثلاثين أو أربعين، لم يعد هناك مشكلة في العدد، فالمقاعد متاحة للجميع الآن...
بين دوي القنابل؛ ضرب جرس المدرسة، مُعلنًا نهاية الحصة الأولى من اليوم الدراسي:
ص1: الجو ربيعي اليوم؛ ما رأيكم أن نلعب كرة القدم بعد المدرسة؟
ص2: لا فلنلعب المساكة.
ص3: لا تعالوا نصطاد الأسماك من البحيرة القريبة.
ص4: لا كرة القدم أفضل.
ص5: لن أشارككم؛ فمعي العدد الأخير من بلاي بوي.
ص6: فلنجلس كلنا نطالع البلاي بوي.
ص1: ها قد اختلفت الرؤى كالعادة، و أنت يا أحمق ألا تشاركنا في شيء؟
أدرت وجهي إلى الناحية الأخري؛ لا أريد أن أشترك معهم في شيء، سأعود إلي أمي...
صاحوا جميعًا في صوت واحد: تبًا لنا؛ أضعنا يومًا آخر، دون أن نفعل شيئا، تجمعنا في فناء المدرسة صباحًا، بعد أمسية أحيا ليلها رقصُ النيران، و صخبُ المدافع، لم يحضر ص 3 اليوم هل يعلم أحدكم أين هو؟.
ص4: أعتقد أنه ذهب في رحلة صيد هاربًا من المدرسة.
ص2: فلنلحق به بعد المدرسة...
ـ حسنًا لن نفترق اليوم.
قلناها جميعًا بدون تردد بقلب رجل واحد!، بينما يقول أحد مُعلمي الرياضيات أو الهندسة أو الحساب لا يُهم "أن الخطوط المتوازية لا تلتقي أبدًا!".
دخلت أم ص 3 علينا بملابس الحداد و علي كتفها إنتصب غرابًا له منقار طويل عرفنا أن ص 3 صار خطًا متوازيًا لن نقابله أبدًا.
في صباح يوم اختبأت شمسه من عواصف التراب و دخان المدافع، صاح في ضحاه ديك أمريكيٌ من السرب الطائر؛ وقفنا ننتظر البلاي بوي حتي نعبث بها في دورة المياه، لكنها لم تحضر اليوم، لأن حامل البلاي بوي قرر أن يفسد اليوم علينا و لم يأت بعد.
ص1: إبن الزانية لم يحضر اليوم.
ص4: سأجعله يكره نفسه؛ سأحطم أنفه لقاء ما فعل.
ص1: صدقت و الله كيف يغيب عن المدرسة يوم الاثنين ألا يعلم أنه يوم البلاي بوي؟
ص 6: سأذيقه ألما لم يذقه في حياته من قبل، لقد خُلقنا من أجل يوم الإثنين، هذا هو يوم البلاي بوي.
ص2: حسنًا بيته ليس ببعيد؛ فلنذهب له و ندفنه حيًا، السافل كيف يُفسد علينا متعتنا؟ّ!
حملنا شهوتنا الصغيرة حتي وقفنا أمام بيته، وجدناه يحمل حقيبة ظهره ممسكًا بيدي أبويه ليشاركهما رحلتهما إلي السماء؛ فعرفنا أن البلاي بوي ترك كل شيء و لم يحمل معه إلي الآخرة سوى مجلته الممنوعة في الدنيا.
كان ضروريًا جدًا أن نذهب إلي المدرسة في اليوم التالي و هو اليوم الرياضي... لم يضرب أحدهم جرس المدرسة، لأن اليوم بأكمله للعب كرة القدم؛ فريقنا صار أقل عددًا؛ فكنّا نلعب اثنين ضد اثنين و المرمي مشترك، بينما الكرة مع ص1 الذي انفرد تمامًا بالمرمى لم ينقذ أحدهم ص6 من قدمه الغاشمة، التي أطلقت أسرع رصاصة قناص في التاريخ، تمامًا بين عينيه؛ يا لمهارته، يا لروعتها؛ خلقت خلفها زوبعة من الرمال، إنها عاصفة الصحراء أيها السادة المشجعين، و يسقط الحارس ص6 صريعًا غارقًا في دماء الهزيمة، و دموع الخسارة... ص1 يقفز من فوقه و يدخل خلف خط المرمى و يعانق الشِباك، و يجري و يقفز مثل اللاعبين الكبّار؛ ليحيي الجمهور و يرسم الصليب علي جسده مثل النجوم اللامعين؛ لتستقبله رصاصة الرحمة أسفل عينه اليسرى تحديدًا، و يسقط على الأرض ساجِدًا، ليشكر المولى، و ها هو المشهد يا عزيزي المشاهد ص1 و ص6 يعانقان الثرى بعد هذا الهدف الذي لن ينساه التاريخ، و فجأة دون أي مُقدمات تُشير عقارب الساعة إلي انتهاء الوقت الأصلي للمباراة، مُعلنة أن على كل منا أن يذهب إلي بيته؛ فحملنا حقائب الظهر و تركنا ص1 و ص6 يمضون عقد الاحتراف، ليشاركون في كأس العالم الحقيقي في العالم الآخر.
بعدما هجر الملاعب اثنان من أفضل اللاعبين، صار عددنا ثلاثة؛ فلن نستطيع لعب الكرة ثانية، اللهم إلا بضربات الجزاء التي تخالف قوانين الحياة؛ فليس بها أي نوع من الجزاء، فقط هي تُعتبرعِقابًا لحارس المرمي؛ جلسنا نفكر كيف سنقضي اليوم بعد حصة اللغة العربية؟.
دخل المُعلم كالعادة يحاول أن يبدو صارمًا:
ـ رددوا معي يا أولاد: فالخيل و الليل و البيداء تعرفني ... و السيف و الرمح و القرطاس و القلم
هذا هو المتنبي فارس شعراء الضاد، أعظم شعراء العرب، و هذا هو البيت الذي قتل صاحبه يا أولاد!.
في طريقنا إلي منازلنا نردد:
فالخيل و الليل و البيداء تعرفنا و السيف و الرمح و القرطاس و القلم
فالموت و الحياة و الوطن يعرفنا و لم نذق هنا سوى الألم!.
تردد صدى كلماتنا و أبيات المتنبي كثيرًا، حتى رأيت أحد المُدججين بالسلاح يصب علينا وابلًا من الرصاص؛ فصرنا اثنين نهرب في البيداء بين المروج الصفر و النخيل، حتى قتلت أبيات المتنبي واحدًا من بعده!...
كان اليوم هو الخميس تقريبًا؛ بقي أمامنا يومًا واحدًا لنخلد للراحة؛ لماذا لا نرتاح سألت ص2؟
قال لي: "إن الرب خلق الدنيا في ستة أيام و ارتاح في اليوم السابع فلماذا لا نرتاح".
قلت له تبًا لك، و ضحكنا ضحكة ماجنة أتبعناها بالسباب الذي لن يُضيف جديدًا، إثنان ثالثنا الشيطان؛ جلسنا نتذكر ص1 و ص3 و ص4 و ص5 و ص6.
قال لي ص2: لماذا لا نلعب المساكة فهي اللعبة الوحيدة المُناسبة لنا الآن؟
القط و الفأر!.
القط و الفأر!.
قلتها له ضاحكًا؛ فكم أحب القط الأحمق الذي لا يستطيع أن يأكل الفأر أبدًا.
ـ حسنًا هيا بنا نلعب...
قلت له:
ـ سألعب دور الفأر و أنت القط.
ضحكنا سويًا، و بدأت في العدوّ، و البحث عن مكان مستحيل أن يكشفني، صوت ص2 يعُد: واحدا، اثنان، ثلاثة، انفجار أربعة...
هرعت من مخبئي الدفين عن العيون؛ لأجد المشهد المتوقع لدبابة، يبدو أن قائدها كان لا يُحب القطط!؛ فقرر أن يدهس رأسها الصغير، و فرّت روح ص2 من هنا تمامًا، كأنه نسيّ أنه القط و أنا الفأر؛ فاختبأ مني في الفردوّس الأعلى.
صرت وحيدًا تمامًا لا ونيس لي اليوم سوى حقيبتي المدرسية، عائدًا إلي بيتي، البلاي بوي، كرة القدم، صيد الأسماك، القط و الفأر، المتنبي، كل الأطياف تحوم حولي، حارس المرمي يحافظ على شباكي نظيفة من السعادة، في اليوم التالي طارت ورقة شجرة تعانق رمال فناء المدرسة، لتصعد بعدها إلي السماء، مُلطخة بالدماء.