مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

المشاركة رقم 48 (مارس 2016): حالة ضياع

المشاركة رقم 48
حالة ضياع
بقلم/ وليد خليل موسى ـ الكويت
اليوم الأثنين 1/4/2013
وسط غرفة صغيرة ذات أثاث قديم، و حيطان متشققة، و فرشة أرضية مبقعة، كان أيمن يبحث بين ملابسه المتكومة على سريره، تدور المروحة فوق رأسه  بطنينها المتواصل، ينظر إليها برهة، يزفر نفسا متأففا، كان يشعر بدوار في رأسه، اتجه ناحية الحائط، أغلق زر المروحة، عاد ثانية و جلس على طرف سريره، أخذ يضم جبهته بين كفيه، و قد سيطر عليه توتر شديد.   
في تلك الأثناء رن جرس الهاتف:
- ألو...
- ألو...
- أين أنت يا أيمن؟ 
- أنا في الغرفة... لا فائدة، لم أجد المفتاح؟
- أضعت المفتاح... يا إلهي... أنت تمزح، أين أضعته؟
- وضعته أسفل ملابسي في الخزانة، و لكنني... ولكنني لا أجده الآن...
- ابحث جيدا...
- بحثت كثيرا، أخرجت جميع ملابسي من الخزانة و رميتها على السرير، الخزانة خالية الآن، حتى ملابسي فتشت بينها قطعة قطعة، مرت ساعة و أنا أبحث، لا شيء إطلاقا؛ ماذا سنفعل الآن؟ 
- حسنا... تعال الآن، سنحاول تدبر الأمر!
قام أيمن من مكانه، و ارتدى معطفه المعلق بالشماعة قرب خزانة ملابسه، اتجه إلى درج صغير قرب سريره، أخرج مفتاح غرفته، أطفأ النور، وأغلق الباب.
                                        ***
في زقاق سوق قديم جمع من السابلة يهدرون، يتخلخل هديرهم أصوات البائعين و هم ينادون لبضائعهم،  في تلك الأثناء شقت الدراجة الهوائية طريقها عبر الزقاق، و أخذ أيمن يدير العجلة بقدميه متسارعا، كان قلقله يخالط لهاثه، أخذ ينبه المارة أمامه بصوت الجرس اليدوي المعلق بمقود دراجته، ينتبهون، يبتعدون بفزع مفسحين له الطريق.
 هتف أحد الباعة من جانبه الأيمن بعدما قطعه بمسافة أمتار:
ـ على رسلك، على رسلك يا ولد، أمامك بشر!.
يصل أيمن إلى مشارف محل العطور الذي يعمل به، عاجله حسان حالما انتبه إليه قادما نحوه بدراجته: 
ـ أضعت المفتاح أنت أيضا يا أيمن؟!.
تباطأ أيمن بدراجته، توقف عن عجل و بخفة هبط منها، ثم أسندها على حائط قرب باب المحل، اقترب من رفيقه حسان، رد متوترا و هو يلهث:
 ـ ماذا سنفعل الآن؟
 أجاب حسان بشيء من اليأس:
ـ لقد اتصلت توا على أحد النجارين، سيقوم بكسر القفل... قال لي أنه سيصل خلال 10 دقائق."
هتف أيمن و قد علت وجهه علامات استنكار:
ـ يكسر القفل؟!
ـ نعم؛ ليس لدينا خيار آخر، سيقوم بعد ذلك بتركيب قفل آخر، و إعطائنا مفاتيح جديدة، و طبعا كل ذلك سيكون من جيبنا الخاص.
قال أيمن متحيرا، و هو لا يزال يغالب لهاثه:
ـ و لمَّ فعلت ذلك؟
ـ هذا أفضل من أن يأتي العم أبوغانم و يرى محله مغلقا و الساعة الآن قد بلغت التاسعة، أنت تعرف ما قد يحصل لنا.
رد أيمن و قد هدأت أنفاسه:
ـ حسنا فعلت، و الحمدلله أن العم أباغانم لا يأتي إلا في الفترات العصرية، لذلك سنتدارك الأمر بإذن الله. 
ساد بينهما الصمت برهة، و كان حسان يرمق زميله بنظرة ذات مغزى، إلى أن قال بلهجة ساخرة:
ـ و لكن قل لي أين أضعت المفتاح؟
تبدل وجه أيمن إلى سحنة من غضب، و هتف بحدة:
- أنت  الذي يجب أن تقول لي كيف أضعت المفتاح؟ أنت تملك المفتاح الأساسي، و كل يوم اعتدنا أن تفتح أنت باب المحل؛ هل أضعت مفتاحك أنت أيضا؟ حسنا جدا، لقد تعادلنا... إذاً اصمت، و لا تنظر إلي هكذا،  فأنت أيضا  مهمل وغد.
رد حسان بشيء من الانفعال و هو يحاول تهدئة رفيقه:
ـ على رسلك، على رسلك يا صديقي لم أنت حنق هكذا، أنا لم أقل شيئا، لقد سألتك فحسب.
لم يجب أيمن بل أشاح بوجهه محاولا ضبط أعصابه.
قال حسان بنبرة يغلب عليها الهدوء:
ـ أيمن عزيزي، دعنا نتكلم واقعيا؛ صحيح أنا أحمل المفتاح الأساسي معي دائما، و لكن المفتاح الاحتياطي الذي معك قد أعطاك إياه أبوغانم لحالة طارئة مثل هذه ، فلو أخذنا مسألة  الاحتمالات بعين الاعتبار؛ فان الاحتمال الأكبر هو ضياع مفتاحي، أما أنت...  
قاطعه أيمن و قد عاوده شيء من الحنق: 
ـ لا أريدك أن تعظني، أنت آخر شخص يحق له ذلك؛ فأنت شخص لا مبال، و لديك برود لا متناه، حتى في أثناء عملك؛  كم مرة اشتكى منك الزبائن المقربين للعم أبا غانم بسبب جفاف معاملتك، و كم من مرة ضبطك فيها العم أبوغانم و أنت تغفو في المحل، هل أذكرك أم نسيت؟!
نظر إليه حسان برهة و هو يضم ذراعيه إلى بعضهما، و قال بهدوء جم مرخيا جفنيه:
ـ قبل أن تتكلم عني يا صديقي، انظر إلى نفسك أولا، قل لي بالله عليك، كم مرة أخطأت في خلطات العطور و تسببت في شكوى الزبائن، و كم مرة تلخبطت في الحساب و لاقيت تعنيف أبا غانم، هل أذكرك أنا أيضا أم نسيت؟!
سكت أيمن و ولى وجهه بعيدا و هو كظيم، بينما علت وجه حسان ابتسامة ظافرة، فتح يديه على مصراعيها و قال:
ـ هكذا نحن متعادلان حقا يا صديقي!
في تلك الأثناء كان العم أبو غانم يقدم بخطوات متسارعة من الجانب الأيمن للزقاق و الشرر يتطاير من عينيه، لاحظه حسان فتبدل وجهه إلى وجوم تام،  فهتف بصوت خفيض إلى رفيقه:
ـ ششششش أيمن انظر؛ العم أبوغانم قادم، إنها حقا كارثة!
و بنظرة فزعة التف أيمن بسرعة و هتف:
ـ أين؟... يا إلهي إنه هو، ليس هذا وقت قدومه؛ من أخبره؟!
و ما أن اقترب أبوغانم منهم، حتى هتف فيهم صارخا:
ـ لم المحل مغلق إلى الآن؟! أتظنان أني ساه عنكما؟! هاه!
رد أيمن متلعثما و هو يصبع زميله: 
ـ هو هو يا أباغانم، هو الذي أضاع مفتاح المحل.
هتف حسان مدافعا عن نفسه و قد استحالت لهجته إلى انفعال مفاجئ: 
ـ لست انا فقط، هو كذلك يا عم أبوغانم؛ لقد أضاع هو أيضا المفتاح الاحتياطي.
قاطعهم العم أبوغانم، و قد توقف تماما قبالتهم و استأنف قائلا: 
ـ كفاكم تبريرات غبية، لقد تعبت منكما، منذ أن عملتما في محلي و انتما تسببان لي المتاعب، يبدو أنه  لن ينفع معكما أبدا أي تأديب بعد الآن، صبري معكما قد وصل إلى منتهاه، إنها ليست المرة الأولى!... عذرا يا سادتي.
كان النجار قد وصل بدراجته الهوائية و هو يصفر بفمه، لم يلحظه أيمن و حسان و هم ينصتون بانكسار مطرقي الرأس إلى تعنيف أبو غانم، إلى أن قاطعهم النجار بقوله:
ـ هذا؟
انتبه إليه الجميع، فاسترسل بكلامه قائلا:
ـ لقد أتيت بناء على اتصالكم و إبلاغكم لي بضياع المفاتيح، هل هذا هو محلكم الذي تريدون مني كسر قفله و استبداله بقفل جديد؟
التفت إليه الثلاثة، و قد ازداد توتر حسان، بينما فغر أيمن فاه و دق قلبه رعبا.          
هتف أبوغانم بعد سماع ذلك و قد ازداد زمجرة و حنقا:
ـ و تريدان كذلك كسر قفل محلي و استبدال مفاتيحه؟!
استولى على وجه النجار استنكار مفاجئ، و لما شعر بأن هناك معضلة يمكن أن تطاله، انسحب  بدراجته بهدوء تام و كأنه لم يقل شيئا.
 في تلك الأثناء هتف أيمن متلعثما بانفعال تام:
ـ لا لا يا عمي لا تفهمنا خطأ أرجوك، كنا نريد حل المشكلة لا أكثر...
قاطعه أبوغانم و هو يفتح عينيه على أشدهما و يشير بيد متوعدة:
ـ اخرس اخرس لا كلمة   و انقلعا أنتما الاثنان بسرعة من هنا حالا، قبل أن أبلغ عنكما الشرطة، أنتما مفصولان منذ هذه اللحظة... أغربا عن وجهي!.
ـ و لكن يا عمي...
ـ قلت لك اخرس و لا تنطق بأي كلمة؛ هل تريدني أن أتصل بالشرطة، ها ، قل لي هل تريد ذلك حقا؟!
تراجع أيمن مذعورا و هو يفتح كفيه إلى الأمام متراجعا: 
ـ لا لا يا عمي أرجوك، لن أنطق بأي كلمة، حسنا سأرحل، سأرحل حالا.
ـ أغرب أنت و رفيقك الأبله لا أريد رؤيتكما ثانية.
لم ينبس حسام ببنت شفة، بل ظلت عيناه  ترنو بوجوم إلى أبي غانم، ثم أخذ ينظر إلى رفيقه أيمن، كان الأخير ينسحب بخطوات متثاقلة إلى أن حمل دراجته المستندة على الحائط، و مضى في طريقه مدحرجا إياها على جانبه و هو يمضي للجانب الأيمن من الزقاق، أما حسان فرغم أن طريقه على المخرج الآخر من الزقاق، فقد قرر في نفسه مصاحبة رفيقه إلى مسكنه و مواساته، فهو لم يكن يشعر بمقدار ذلك الألم الذي شعر به أيمن كما تبين من قسماته. هرع ماشيا إلى جانبه بخطوات متسارعة، و لم يكن لأيمن  أن يلتفت إليه، و بعد عدة أمتار من مفارقة المحل صاح بهما أبوغانم مؤكدا كلامه:
ـ إن رأيتكما تقتربان من هنا، فلا تلوما إلا نفسيكما.
نظر حسان برهة إلى الخلف، كانت نظرته خالية من أي تعبير، أما زميله أيمن فقد كان مطأطئ الرأس، مهموم القلب لم يقو من شدة حزنه على الالتفات إلى الوراء.
قطع الرفيقان بضع أمتار حتى وصلا إلى مخرج الزقاق، و هما  يرنوان إلى الصمت.
التفت حسان إلى رفيقه و قال مواسيا:
ـ لا يهمك يا أيمن، سنجد عملا أفضل بإذن الله.
رد أيمن بنبرة منهكة دون أن يلتفت:
ـ ماذا تريد، لم  تلحق بي ؟  لا أريد التحدث معك.
ـ أيمن عزيزي، لنكن صريحين مع بعضنا، كان خطأً مشتركا، ليس هذا وقت المعاتبة، و من ثم إن أبا غانم كان في نيته أن يستبدلنا منذ زمن طويل.
صمت أيمن و لم يبد ردا، حتى عاجله حسام قائلا:
ـ أيمن لم أنت متضايق هكذا، بإذن الله سنجد عملا بالتأكيد، الرزق بيد الله و ليس بيد أبي غانم أوغيره.
نظر أيمن بطرف عينه إلى صاحبه و قال:
ـ الحمدالله
ثم استدرك قائلا:
ـ هل تعلم يا حسان، أنت حقا غريب الأطوار!
علت الدهشة وجه صاحبه و قال باسما:
ـ حقا... كيف؟
ـ منذ أن عرفتك، و أنت غير مبال بشيء إطلاقا.
ابتسم حسام و هتف قائلا:
ـ دعك مني الآن يا أيمن، أرأيت كيف أتانا ذلك النجار الأخرق، لقد زاد الطين بلة، و انسحب بهدوء كالأبله.
قال ذلك و قد أفلتت منه ضحكة هوجاء كادت أن توقعه و هو ينحني و يعتدل على إثرها و يضرب كفيه ببعضهما، و بحركات ساخرة ملؤها النشوة و الحماس أخذ يعيد سرد مشهد مجيء النجار، و يحاكي حركاته و صوته و مشهد قدومه، وقعت الدراجة فجأة، حين كان أيمن يقهقه بقوة، و قد ابتلت عيناه.