المركز السابع:
إنها
تعلم
بقلم
أ/ هاله أحمد الزقم (مصر)
و
أخيراً نجت من براثن الطابور اللعين و ظفرت بغنيمتها الكبرى- الخمسة أرغفة- التي
عانت قرابة الساعة حتى تتحصل عليها! كانت تتصبب عرقاً رغم برودة الشتاء القارسة
حتى كاد ثوبها الأسود الواسع أن يلتصق بجسدها النحيل، ربما بفعل التحام البشر
المميت و تصارعهم المحتدّ لنيل لقيمات الخبز المدعم، ربما بفعل الأغطية الكثيرة
التي تحيط بها ابنها الذى تحمله على كتفها إفراطاً في حمايته من لعنة البرد التي
تتسلل له دوماً، ربما بفعل ثقل وزن الطفل ذي الأعوام الثلاثة و ركله المستمر لها و
صياحه و ضجره، و إصرارها العجيب رغم هذا ألا تنزله على الأرض خوفاً من سحق الأقدام
له في رحلة الدهس اليومي المعتاد!
ربما
بفعل النيران التي تستعر بداخلها إثر ضرباتٍ قدرية متلاحقة استعصى عليها فهم
حكمتها... كلها احتمالاتٌ قابلة للتأويل...
ربتت
على ظهر طفلها الذى لا يكاد وجهه الجميل يُبين وسط أغطيته و ابتسمت له ابتسامة
عريضة مجهدة:
- خلاص يا حبيبي... خلّصنا و
خِلصنا
- أنا
جعان و عايز أروَّح
- خد
لقمة العيش دى نأنأ فيها.
- طب نزلينى أمشى.
- لا
يا حبيبي السكة طويلة و مش حتستحمل، خليك على كتف أمك أريَّح و أجمل و أأمن...
و
أخذت تُلهى الصغير طوال الطريق بالحديث عن الطعام الشهي الذى ستعده له عند العودة
للمنزل، فقد كبر الكتكوت التي اشترته منذ عدة أشهر وصار دجاجة سمينة، وستشويها له
وحده يأكل منها ما شاء و ليمُنَّ عليها فقط بشريحة صغيرة لتتذوقها، أما الحساء
الساخن فسيشربان منه أطناناً، و يمكن أن يعوما معاً فيما تبقى منه! و بعد الغذاء
ستشوى له البطاطا اللذيذة و تضيف لها السكر ثم يهرسانها و يشكلان منها كوراً صغيرة
يقذفها كل منّهما في فم الآخر، و بعد الطعام سيلعبان معاً بالسيارة الكبيرة ذات
الريموت التي اشترتها له، لم تخبره أن السيارة أخذتها عطيّة من السيدة التي تعمل
عندها وأنها كانت بالأصل لابن خالته الذى يكبره بعامين و لكنها آثرت الاحتفاظ بها
له و دعت الله أن يسامحها، فقط حذرته أن يصدمها بسيارته!
و
الولد يسمع و يسيل لعابه من كثرة المفاجآت المنتظرة، تتقافز الصور و الروائح
الشهية في خياله، فيمطر كتف أمه بقبلات منمنمةٍ، و يصيح و يهلل:
- هييييييه... أمى أحسن أم في الدنيا.
تضحك
الأم بصوت عالٍ...
يقف
بعض المارةٍ محدقين فيها و في ابنها، تدارى وجهه الجميل خوفاً من الحسد، و تقرأ
المعوذتين و كل ما تحفظه من أدعيه و أذكار.
تمر
الرحلة الشاقة سريعاً، و تصل إلى المنزل...
تدفع
باب العشة الخشبي المتهالك، تلقى بجسدها المنهك على السجادة البالية، تُسقط لفافة
الخبز الذي يعلم مصيره اليومي وحيداً في أمعائها، ثم تنزل عن كتفها برفقٍ حلم
الأمومة المصطنع، تحتضن بصيص الضوء الذي يتسلل عبر الشباك الصغير، و تتطلع إلى
السماء الواسعة القابعة خلفه طويلاً، تومئ برأسها مراراً و تبتسم:
- إني
أعلم...