ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المركز الثاني
مكرر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ربيع ضاحك!
بقلم/ نصرالدين
شردال (المغرب)
لم يأت نصر الله
بعد، بل جاء القّصف، والعصف، وابتدأ الزّحف، وصار الرّبيع خريفا و رمادا، ورأيت
النّاس يرتحلون من بلاد الله، ويدخلون في المتاهة المظلمة أفواجا.
المدينة المحاصرة
ترتدي ثوب الحداد، والطائرات المغيرات تمطرها بوابل من القنابل والبراميل المشتعلة
والغاز الكيماوي الخانق، طار الحمام بعيدا في الأفق، وانهارت البنايات والمكتبات
والمساجد والكنائس، وقوافل من النازحين دّامعي الأعين يخرجون من المدينة منكسي
الرؤوس كآخر الخارجين من الأندلس، لقد سلّموا مفاتيحها للفاتحين الجدد قهرا، والغازين
مدنهم.
منتصف النّهار،
غير أن النّهار مظلم في هذي المدينة كقطعة فحم، وفي شارع صلاح الدّين الأيّوبي
المدمر عن آخره، يخرج من مرسمه في الطّابق الأرضيّ رجل طاعن في السّن، نحيل
الجسم، بظهر مقوس كعلامة استفهام، تعلو وجهه صفرة شرقية رُسمتْ فيها تجاعيد السنين
كبركة وحل تركها الماء فأمعنت في الجفاف والتشقق، لحية بيضاء ناصعة كثلج الأطلس
المغربيّ، ولباس مزركش ببقايا الألوان/ الأحزان، يعتمر قبعة كقبعات رعاة البقر،
وعلى عنقه تدلّت كوفيّة فلسطينية مرّقطة تلمع في أسفلها صورة القّدس بقبته
المذّهبة، معه حفيده الّذي قارب الثانية عشرة من عمره إلا قليلا، بوجه شاحب عابس
مجروح من شرارة قذيفة تطايرت في الأرجاء، خصلات شعره الشّقراء تلاعبها مويجات
الرّيح فتتراقص في كبرياء رفيع. فلمْ يأبها بما يقع في المدينة من دمار وقتال،
وزحف للعدم والأرض اليباب، كأنّ شيئا لم يحدث.
وعلى أنقاض منزل
قديم، يجلس شاب في مقتبل الحلم يمسك في يديه قوسا وكمانا، يمرر القّوس على الأوتار
في رقة كأنه يذبح قلب الحبيب كرها، فينبعث صدى مقطع حزين من بين الأنقاض ويعمّ في
الأرجاء كأنه صهيل حصان جريح عاد وحيدا من معركة خاسرة لا يحمل غير سهام الفارس
المقتول غدرا يقطر بالدّم والعبرات.
أخذ الرّسام
العجوز يخرج عدّته لباب الشّارع، وحفيده يساعدهُ، ووزع علب ألوانه مرّت من أمامه
جموع من العائلات النازحات، قال له شاب دمشقيّ القسمات.
ـــ يا عم ستقصف
المدينة للمرة الأخيرة في أيّ لحظة، وتحوّلُ إلى هيروشيما جديدة، انج وحفيدك من
مدينة لم تبق فيها روح.
قال الطّفل
مذعورا: اسمع يا جدي سيقصفون المدينة، هيا لنذهب .
غير أن العجوز لم
يأبه به، وردّ عليه قائلا :
ـــ لن أهجر
المدينة الّتي عشت فيها طول عمري أرسم تفاصيل حياتها، ووجوه سكانها، لن أهجر
المدينة رغم زحف الخريف، سأرسمها ربيعا ضــــاحكا كما كنت أحلم به وحلم به
الآخرون...
ركض الطّفل ليلحق
بالنازحين، فالتفت وراءه، ورأى جده يكابد من أجل رفع حامل اللّوحات الفنية، كجندي
في معركة يكابد رفع العلم الوطنيّ بعد سقوط كل الجنود.
وجاءه صوت من داخله:
إلى أين تذهب؟. كل أهلك ماتوا، لم يبق إلا جدك. وتذّكر كلام أمه الّتي كانت توصيه
دائما خيرا بجده، ثم قضت نحبها في انفجار
عبوة ناسفة حولتها إلى ذرّات صغيرة من لحم ودم، ورنّ في أذنه صوتها كأنها لازلت
حيّة ترزق، كنس رأسه وعاد مسرعا ليساعده.
هيأ العجوز الألوان، رسم بقلم الرّصاص على
الثّوب الأبيض خطوطا غامضة، مزج الألوان، استبعد اللّونين الأسود والأحمر.
وشرع في الرّسم
بكل عزم وقوة على اللّوحة العذراء، والطّفل يمده بما يطلبه منه: " سأرسمك
أيّها الرّبيع من الخليج إلى المحيط، ومن المحيط إلى الخليج، كما اشتهتك النّفوس
الظامئة..."
اللّوحة تتشّكل في
براعة متناهية، الخطوط تتداخل، وتربط الشّرق بالغرب والشّمال بالجنوب، الألوان
تتمازج، يخرج الضّوء ساطعا بالأمل من تموّجات الظّل والعتمة، ها هي الأرض تنبت
نباتا حسنا، الأزرق ينساح سواقي صافيّة يترقرق فيها النّيل والفرات وبردى وأبي
راقراق...
الأخضر يتنّهد
مروجا وحدائق وحقولا وأحزمة من الغابات الشّاسعة، وها هي السّماء تصفو من جديد،
ويغادرها هدير الطّائرات، تَزْرَقُّ طاهرةً صافيّة تعبرها أسراب الطّيور والحمام،
في هناءة وسلام. الضّباب الأسود يصير ضحى مشرقا يسرُّ الناظرين، البنايات تشمخ،
والطّرق تتشيّد من جديد، وجوه ناظرة ضاحكة، ونفوس مطْمئنة ترجع إلى وطنها الحبيب
راضية مرضية، و رويدا رويدا يرجع إلى القلب خفقان الأمان.
ها هي اللّوحة على
وشك الاكتمال، صارت نابضة و ناطقة بالحياة، قال له حفيده:
ـــ إنها تشبه بعض
لوحات كلود موني الانطبّاعية يا جدي. غير أنّها تبدو حقيقيّة.
ـــ "ها قد
بدأت تفهم دروسي جيدا يا حفيدي،" وأحس بقشعريرة فخر تسري في عروق جسده
الشّيخوخي المنهوك، فقد كان راضيّا على نفسه، بأنه أورث فنه وموهبته لآخر من بقي
من سلالته، وأردف:
ــ حين تضع الحرب
أوزارها، سأرسلك إلى معهد "فيينا" للفنون الجميلة ــ حيث درست ـــ
وستصير فنانا عالميّا يرسم للحياة والفرح.
ـــ لا حاجة لي
بمعهد "فيينا"، سأدرس في مدينتي، سأبقى ها هنا جلمودَ صخْرٍ إلى أن
أموت.
ـــ حسنا، قال
الجدّ مبتسما، وهو يرجع للوراء قليلا، ثم يغمس الفرشاة في خليطة الألوان، ليوقع
اسمه على اللّوحة.
كتب في أسفلها: "
محمد العر..." قبل أن ينتهي من توقيع اسمه كاملا، كان قاب قوسين أو أدنى من
بندقية قناص في الطّرف الآخر بالطّابق العلويّ من البناية الآيلة للسقوط قد جعل
رأسه يتوّسط منظار بندقيته، تحسّس الزّناد، وبتركيز شديد أحكم الطّلقة، فانطلقت
الرّصاصة الملتهبة تشقُّ الهواء وتكسّر الصّمت إلى أن عبرت في رأس الرّسام،
تطــــايرت قطرات الدّم كلطخات فرشاة من يد فنان سرياليّ بلا معنى على اللّوحة
الطّرية...
عانق لوحتهُ وهو
يتهاوى متمسحا بها، سقط الرّسام، ولم تسقط اللّوحة يا دمشق الحرائق، لم تسقط
اللّوحة. وظّلت شاهدة معلقة بمسامير التّحدي في وجه العاصفة ساخرة من العدم، غير
أن الألوان الزّاهية كانت تسيلُ ممزوجةً بدم الشّهيد، وكان الرّبيع يبكي بدموع
الدّم القّاني...
سقط الرّسام
العجوز صريعا، وبعين دامعة ومصرّة، وقلب يخفق بالتّحدي، أمسك الطّفل الفرشاة بيد
ناعمة واثقة من غدها، مسح الدّموع، مزج الألوان، ثم واصل رسم الرّبيع
الضّــــــــــاحك من جديــــــــــد.