مرحبا بكم في بلوج مسابقة واحة الأدب بالكويت في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي برعاية رابطة الأدباء الكويتيين/ للوصول إلى صفحة المسابقة بالفيسبوك اضغط هنا

سكيزوفرينيا بقلم أ/ ياسين بعبسلام (المغرب)


المركز الثالث:
سكيزوفرينيا
بقلم أ/ ياسين بعبسلام (المغرب)
"حَرّرني" يُقُولُ النَّاسِكُ لضَميرِهِ "دعْني أمضي إلى حيثُ ليسَ عليّ أن أكوَن كاملاً. لم تَعُد المَنَارةُ رحبةً، دعني أنزلُ إلى الأرض، حيثُ أكونُ إنساناً بكُلّ ما في الإنسانية من نقصانٍ. أمنَ الصّوابِ أن أدّعي العِصْمَةَ هُنا وقَد قضَمتُ الثّمَرةَ المُحَرّمَةَ هُنَاكَ؟ وأنّى لي باليقين وأنا أُنكرُ الشّكَّ؟ وإنْ كان من الخطأ أن أقعَ في الخطيئة فهل من الخطيئة أن أقع في الخطأ؟ فُكّ وثاقي، إلى متى أظل سجيناً في هذا البُرج العَاجيّ؟ لقد طالَ بي المُكوثُ هُنا في هذا الفَوق الشّاهقِ، أنتظرُ التّجلي وأتوَهَّمُ الكَشْفَ النُّورَاني مِن ملاكٍ ما، لِمَا لم يأتِ بعدُ؟ أيُعقل أن الزّبونيَةَ تفَشّتْ حتى بينَ الملائكةِ؟ "
رمَى الخُرقَةَ الصُّوفِيّةَ جانباً و ارتدى سِروالهُ الجِينز، القَميص المُزَركش، و نظّارَاتهِ الفَخمَةَ السّوداءِ، ثم قصَد الحانة بجوار مَعبده، اتّخَذَ مَقعدَهُ كما في كل يومٍ أقصى المنضدة: "فودكاَ مع أناناس"، قالتْ النّادلةُ عَفَاف: تبدو وسيماً اليوم بقميصك المُلوّنِ"، حاوَلَ أن يُماثلها المجاملة لكن لم يكن عليها ملابسٌ كثيرة فأبدى إعجابهُ بالعقدِ الّذي يُحيطُ بعنقها. تجرّع نخبهُ الثالثَ، ثم أطلقَ ساقَيهِ للرّقصِ. وسَطَ الحَلبة عادت به ذاكرتهُ المخمورة إلى الزاوية الأولى أيام كان مُريداً عند شيخه. دار رأسُهُ. شَعَرَ لهُنَيْهَةٍ بالمَدَدِ الذي كان يعتريه آخرَ الحَضْرة، وسقَطَ في دَهشَةٍ صُوفيّةٍ ثُم بدأ يحبُو مُتَلَمّساً طريقهُ نحو البابِ. مدّتْ عَفاف يدها تُساعدهُ على النُّهوض فأشَاح إليها بأن تبتعدِ و حدَجَها بنظرةٍ قاسيةٍ فهمتْ على إثرها أنها فقط حالتهُ المُعتادة آخِرَ اللّيل.
عائداً، كان يحسُّ بالضياع: " كيف تَسنّى لي أن أنزل إلى الحضيض بقدميّ هاتين تاركاً برجيَ؟ لن أكون سيداً في الحضيض، أنا عبدٌ و العبوديةُ تتجه نحو السماء. آهٍ يا سيزيف، فقط أخبرني لما عليّ أن أستمر بالصُّعُود في كل مرةً حاملاً صخرة النّدم على كاهلي؟" وقفَ قُبَالةَ البُرج و هو يُحِسُّ بالخِزْي و العارِ، و استقطرت عيناهُ غزيراً منَ الدّمع. جثا علي ركبتيه يائساً، و بدأ يتوسل الغفران: "أيتها المنارة المُقَدّسة كيفَ أصعدكِ و قد دنّستُ روحي؟ إني ضائعٌ و وحيدٌ، فهل ألمَحُ طيفَ فيرْجيل ليُرشدني في هذا الغيهبِ المظلم ؟" و حين اغتسلَ بدَمع تَوبتهِ و أتعبه الذّنبُ، نثرَ خُطاهُ إلى أعلى البُرج ليلبس خُرقته الصُّوفية. كان يُدرك بأنهُ لن يصمُدَ كثيرا على عتبةِ الملائكة. و قريباً سيُلبّي نداءَ الشّيطان مُجَدَّداً. لكن عزَاءَه الوحيد كان شعورهُ العَميق بأنه فِعلاً يَكونُ في كامل إنسانيته في تلك اللّحظاتِ القليلة التي كانت تستغرقها المَسَافةُ بينَ الحَانَة و البُرج.